دخل اتفاقُ وقف إطلاق النار فى غزَّة حيِّزَ النفاذ، ليدخُلَ ترامب بالتبعية إلى البيت الأبيض حاملا أوَّلَ إنجازٍ لإدارته الثانية. صحيح أنَّ بايدن يتقاسمه معه نظريًّا، إلا أنه فى الخُلاصة العملية يكاد ينصرف لحسابه مُنفردًا، بجانب ما كان من جهود الوساطة المصرية القطرية طوال خمسة عشر شهرًا.
وقد لعبت القاهرةُ دورًا مُهمًّا وعضويًّا فى الحفاظ على عملية التفاوض فوق السقف الذى أراده نتنياهو، ودون الإغراق الحماسىِّ الكامل فى الوَهْم ودعايات المُمانَعة، ومهَّدتْ الأرض لإنجاز الصفقةِ بيُسرٍ نِسبىٍّ، استنادًا لأنها لم تبدأ من فراغ، ولا ظلَّت حبيسةَ الأهداف الأَوَّليّة التى تَشدَّد فيها طَرَفَا الحرب.
يعودُ الرئيسُ الجمهورىُّ لصدارة المشهد السياسى الأمريكى بعد أربع سنواتٍ بالتمام والكمال. غادر مُشيَّعًا باللعنات، وبهزيمةٍ ثقيلة أمام مُنافسه العجوز، ويحلُّ مُجدَّدًا على طَلَل الإدارة نفسِها التى أسقطَتْه سابقًا، وبوَفرةٍ من الشعبية لم يَختبِرها حتى فى ولايته الأُولَى.
وإن كان من إشارةٍ فى الرجوع الصاخب من خارج كلِّ التوقعات، فهى أنَّ الداءَ الذى أصابه فى خريف العام 2020 كان دَوَاءه الشافى فى نوفمبر الماضى، على معنى أنه استمدَّ العافيةَ من هزال المُنافسين، بأكثر مِمَّا يُنسَبُ الفَضلُ لقوَّته الخالصة، ولعلَّ «طوفان الأقصى» الذى يشهَدُ اليومَ على تجفيف تداعياته، كان أحدَ المُحفِّزات الكُبرى لانتصاره المُظفَّر على الديمقراطيين، حتى قُبيل إطلاق يحيى السنوار مُغامرته فى غلاف غزَّة، لم يَكُن أشدُّ المُحافظين تفاؤلاً يتوقَّعُ أن يُبعَثَ ترامب من الرماد كطائر الفينيق. ظلَّ الرجلُ قابضًا على طموحه فى الثأر، ومُتمسِّكًا بخَوض المُنافسة، ولو يُلاقِه الجمهوريِّون أنفسُهم فى غايته.
وإذا كان الصَّخَب اليمينىُّ تُفَّاحتَه المُقدَّسة، فقد استمدَّ الوَهْجَ لتجربته الجديدة من انطفاء الشُّعلة الليبرالية بأثرِ الرخاوة التى أبداها الوريث، وتعثُّره فى عقبات العُمر وانحسار اللياقة الذهنية، والاطمئنان الخادع إلى أنَّ «الترامبية» كانت جولةً عابرة، وأنَّ المجتمع المضروب من العُمق قد تجاوزَها، من دون أُفقٍ لتكرار الحالة ذاتِها، أو إعادة إنتاجها مع وجهٍ بديل.
استُدعِىَ العجوزُ صاحب التجربة العريقة فى دولاب الدولة للمُنافسة. وكانت الفلسفة فى الاستعانة به أنَّ ما أحدثَه ترامب من خروجٍ على أعراف السلطة المُؤسَّسية وأدبيَّاتها، يتطلَّبُ مُقارعتَه بنموذجٍ شديد التقليدية والانضباط.
أفلحَتْ الخطَّة، لأنَّ الرئيس الجمهورىَّ استعجل عملية الانتقال، وتسبَّب فى صدماتٍ قاسية للوعى العام، حتى إنه أزعج كثيرين من مُؤيِّديه السابقين داخل تيَّارات اليمين، وعلى تنوُّعِها المُتفاوت فى القومية والميول المسيحية البيضاء.
التكتيك الذى أسقَطَ ترامب فى السابق لم يَعُد صالحًا لمرَّةٍ ثانية. بدا عجزُ الرئيس الديمقراطىِّ صارخًا، ولم تُثمِر سنواتُ إدارته فى الداخل أو الخارج. بالأرقام المُجرَّدة تحسَّن الاقتصاد نسبيًّا، وبالأثر العملىِّ ساءت أحوال الناس، وأرهقَهم التضخُّم، وتفاقمَتْ أزمةُ الدين وانكسار سَقفِه عِدَّة مرَّات، فى غياب أغلبيّة تُعينه على تمرير أجندته، أو لُغةٍ مُشتركة تُيسِّر له التسوية مع الجمهوريِّين.
حاسب بايدن على بعض فواتير سَلَفِه، أبرزها تفعيل الاتفاق مع حركة طالبان، إنما على صورةٍ مُزريةٍ شهدها الانسحاب من أفغانستان، وتسبَّب فى نوازل جديدة، كان أخطرها العجز عن إدارة التوازن مع روسيا، وتحفيز «بوتين» ضِمنيًّا على مُناطحة الحلف الأطلسى من الجبهة الأوكرانية.
باختصار، لم يكن مُمكنًا الخروج من زمن ترامب إلَّا مع خبيرٍ مُتمرِّس مثل بايدن، ولم يَعُد مُمكنًا أيضًا إبقاؤه خارجَ السلطة باللاعب نفسه. كان مطلوبًا على وجه السُّرعة أنْ يُجهِّز الديمقراطيون بديلاً أكثر شبابًا وعافية، وأقلّ مَيلاً لنكهة اليسار الليبرالىِّ المُهيمِنة على الحزب.
لكنَّ تقاليدَ السياسة الأمريكية أبقَتْ العجوزَ مُنافسًا وحيدًا، ولم تُنازِعْه فى الأمر أو حتى تُفاوضه عليه، إلى أن انكشف بصورةٍ فاضحة فى مُناظرة يونيو، فاضطرّ حلفاءُ الرئيس لإطاحته، مُقدِّمِين نموذجًا غير مُحبَّب لعامة الناس عن الخيانة والخذلان، ومُنتدِبِين بديلاً من ذات الدولاب، لا يُحقِّقُ المطلوب فى مُنافسةٍ من خارج الصندوق، ولا يسترعى انتباهَه أنه يُكرِّر خطاياه السابقة.
لم يَكُن انتصارُ رجلِ العقارات الآتى من خارج الحاضنة التقليدية للساسة الأمريكيِّين فى 2016 راجعًا لمزاياه الشخصيَّة فحسب، ولا إلى ما قدَّمَه من خطابٍ جديد على أسماع الناخبين، ومُفارقٍ لِمَا اعتادوه فى الحقبة الأُوباميَّة المُكلَّلة بالانتكاسات.
شىءٌ من النصر يُرَدُّ لطبيعة السباق نفسِه، والحصان الذى راهن عليه الديمقراطيون من داخل الذهنيَّة القديمة، طَارِحِين هيلارى كلينتون لتُذكِّر الناس بما كان من زوجها، وما ترشَّح عن شراكتها المُباشرة فى إدارة أوباما، فضلاً عن حاكمية العامل الثقافى، فيما يخصُّ قيودَ النوع، والتركيبة النفسية للناخب الأمريكى، وعدم جاهزية المجتمع لتغيير ضمير الخِطاب المُعتاد مع ساكن البيت الأبيض.
ولو أعدَدَتَ قبل سنتين سيناريو مُتخيَّلاً لأسوأ مُقاربةٍ ديمقراطية مُمكنة فى امتحان الرئاسة، ما كان فى مستطاع أعظم الناس خيالا وتشاؤمًا على السواء، أن يصل بالتصوُّرات الرياضيّة إلى ما تحقَّق فى الواقع بالفعل.
رئيسٌ يفتقدُ اللياقة ويقبضُ على حقِّ الفرصة الثانية، وحُلفاء يَغدرون به بعد تعذُّر إقناعه بعدم الصلاحية، وسيدة كانت شريكتَه المُباشرة فى كلِّ سَوءاته تُدفَعُ للواجهة، وتزيدُ على هيلارى بأنها مُلوَّنة، ولا تحملُ تاريخًا سياسيًّا بارزًا، وتتعثَّر بين ولائها للرجل الذى منحَها الموقعَ الثانى فى إدارته، وضرورة الانفصال عنه للإيحاء بتجديد الدم، وتأكيد رغبة الخروج من أَسْر التجربة الباهتة بكلِّ حُمولاتها السلبية المُزعجة.
هُزِمَ الديمقراطيِّون قبل أن ينتصر ترامب. وربما مع طَرحٍ مُغايرٍ، كان بالإمكان تغيير النتائج، أو تقليص هامش الربح، لدرجةٍ لا تجمعُ أطرافَ السلطة كلَّها فى قبضة الرئيس، الجديد القديم، كما هى الآن.
وإذا كان بايدن وزُمرتُه لم يُحسنوا قراءةَ دروس الماضى، ناهيك عن استيعابها والاعتبار بما تضمَّنته من خُلاصات، فإنَّ الخصم الذى يرثُ مقاعدَهم اليومَ يبدو أكثر ذكاءً مِمَّا كان فى السابق، وأقدرَ على المُناورة وتلوين الخطاب، وعلى الحَسْم أيضًا، عندما يكون مطلوبًا أو مُبشِّرًا بمصلحة.
قال إنه لو كان موجودًا ما اندلعت حربا أوراسيا والشرق الأوسط، وإنه قادرٌ على إنهائهما فى نهارٍ واحد، وقبل أن يرتاح على مقعدِه الوثير، ثمَّ عاد ليرخى الحبلَ من جهة بوتين مُمَدِّدًا المُهلة، ويَشُدّه من ناحية نتنياهو فارضًا الهُدنة، ويُرعِبُ الحُلفاءَ شمالاً وجنوبا وفى كل الاتجاهات.
وإلى ذلك، يستدركُ على خطابِه الدعائى فيما أزجاه من عناوين الهجرة والانعزال والضرائب، وغيرها من ملفَّات التوظيف السياسى، وقد تحقَّق أثرُها المطلوب فى صناديق الاقتراع، ويبقى أن تعودَ لقواعدِها بمَنطق ِالإدارة الرشيدة الباردة.
لم يُقَدِّم ترامبُ نفسَه سياسيًّا خبيرًا، ولا صاحبَ أجندةٍ أيديولوجيَّةٍ دُونَها الحرب أو الإنفاذ الكامل. خَلفيَّتُه العَمليَّة تنحصرُ فى مجال الأعمال بمعناه الربحىِّ، ومن زاويةِ الريع لا الابتكار. له تجربةٌ مع تليفزيون الواقع تَنُمُّ عن شخصيَّةٍ استعراضية، ومَيلٍ للظهور والذيوع بين الناس، وإذ يختلفُ مع الساسة التقليديين فى تصوُّرهم عن الامبراطورية الأمريكية، فإنه لا يختلفُ عليها، وسيُوظِّفُ مَعارفَه المُتراكمة خارج الحقلِّ السياسى، لإعادة بناء الهالة بفلسفةٍ نَفعيَّةٍ إعلانيَّة، وعليه، فلن يكون مشغولاً بعالم المُثُل والشعارات الذى نسجَتْه واشنطن بخيوط التوجيه الناعم أو القوَّة العارية، بقَدر ما يعنيه أن تُفضى المسارات إلى مكاسب واضحة، بمنطقِه المُحاسَبىِّ البسيط عن العوائد والأهداف.
ثمّة خطورةٌ وراء ذلك، بشأن الضابط العاقل لمُمارسات القطب الأوحد، وثمَّة فُرَصٌ أيضًا فى الوصول إلى توافُقاتٍ مُتوازِنة، بمقدار التناسُب بين ما يُريده الآخرون منه، وما يستطيعون أن يمنحوه إيَّاه،
والحال، أنَّ الهلعَ الذى يُسيطرُ على العالم شرقًا وغربًا قد لا يكون مُبرَّرًا. إذ لم تَكُن الولايات المتحدة صمامَ أمانٍ لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلَّا بقَدر ما يستطيع القائل بهذا أن يصرفَ ذهنَه عن كوارثها فى فيتنام وشبه الجزيرة الكورية وأفغانستان والعراق، وعن حقيقة أنها أورَثَتْ الامبراطوريَّةَ السوفيتيَّةَ ثأرًا يتعيَّش عليه فلاديمير بوتين حاليًا، وسيظلُّ حاكمًا لأيَّة مُقاربةٍ روسيَّةٍ لكَونٍ تحكمُه واشنطن بإرادةٍ فرديَّةٍ مُطلَقة.
الصراعاتُ الكُبرى خَلقَها رؤساءٌ تقليديِّون للغاية، وجنرالاتٌ ذَوو تاريخٍ عسكرىٍّ عريق، وساسةٌ يقرأون فى كُتب الليبرالية ومواثيق حقوق الإنسان. وإن كانت المخاوف من ترامب أنه قد يُقصِّر فى مهمَّة الشُّرطىِّ الدولى، فالمعنى العميق أنه سيُحرِّرُ التجاذُبات من الوصاية والدوران فى فلك الرؤية الأمريكية، وسيعفى البيئات الساخنة من «جالون زيتٍ» كان يُصَبُّ عليها دومًا من العَمِّ سام.
وبإيجازٍ، فإنَّ الولايات المُتَّحدة الانعزاليَّة نسبيًّا، لو صحَّ القول بالانعزال أصلاً، قد تكون أفضلَ لنفسِها والآخرين من النسخة التى تدسُّ أنفَها فى كلِّ القضايا، وبمعيارٍ وحيد دائمًا: نربحُ طالما لم يَربَح المنافسون والأعداء، وحتى لو خسرنا مُنفرِدين.
وإذا تساوَتْ المُعادلة فى الربح والخسارة، فربما نكون على أوَّل الطريق لإصلاح أعطاب النظام الأُمَمىِّ القائم على القواعد، مع مُلاحظةِ أنَّ التسمية كانت صيغةً لطيفةً ومُخفَّفة لمقصودٍ آخر، خُلاصته أنَّ العالم يستندُ حصرًا لقانونٍ أمريكىٍّ غامض، قد يذهبُ وراء المنفعة حينًا بمُطاردة طالبان مثلاً، ثمَّ بمنطق المنفعة نفسه يتخلَّى عن حُلفائه، ويُسلِّمُ الحركة المُتطرَّفةَ مفاتيحَ البلد ورقابَ ساكنيه جميعًا.
قبل أسبوعٍ سُرِّبَت وثيقةٌ منسوبة للسفارة الألمانية فى واشنطن، يقول فيها السفير أندرياس ميكيليس لرؤسائه فى برلين، إنَّ ولاية ترامب الثانية ستنطوى على قدرٍ عالٍ من الاضطراب والفوضى، يُركِّز السُّلطةَ فى يدِ الرئيس، ويُعيدُ تعريفَ النظام الدستورىِّ مُتجاوِزًا المُؤسَّسات التقليدية.
وتُحذِّرُ الإفادةُ من تقويض المبادئ الأساسية للديمقراطية، والخصم من استقلاليَّة الكونجرس والإعلام وسُلطات إنفاذ القانون، بجانب إساءة استغلالها ذراعًا سياسيَّة، وتمكين عمالقة التكنولوجيا من المُشاركة فى الحُكم.
وإذ تبدو المخاوفُ مَنطقيَّةً بالفعل، فإنها تنبعُ أوَّلاً من نظرةٍ مِثاليَّةٍ للبنية القائمة فى واشنطن قبل ترامب، ومن حسابٍ له على الذاكرة القريبة لتجربته الأُولى، وبالإجمال تُلخِّصُ هواجسَ الغرب الذى يسكنُ الحاضنةَ الأمريكية مُستمتِعًا بمنافعها منذ نهاية الحرب الأُوروبية الثانية، ولا يُعبِّر عن مخاطر حقيقيَّةٍ داهمةٍ على بقيَّة العالم، كما يُرَادُ تسويق المسألة وإشاعتها بين أهل الأرض.
ولا أعنى بطبيعة الحال أنَّ الرئيسَ الجديد سيكون بردًا وسلامًا على الجنوب العالمىِّ وغيره من ضحايا العالم الأوّل، أو يُعيد ترميمَ ما أحدثَه سابقوه من شروخٍ فى جدار النظام الدولىِّ، إنما أنها ربما تكونُ المَرَّةَ الأُولَى التى يقفُ فيها الغرب أمام امتحانٍ ذاتىٍّ خالص، وينظرُ فى مرآته مُستطلِعًا المخاطرَ التى تتعقَّبه من الداخل، بالفكر وتقليب التُربة لا بالانقلاب وسلاح هتلر.
كان قد اطمأنَّ قبل عقودٍ طويلة إلى اختلال الموازين مع بقيَّة الكوكب، وأنه ليس فى مقدورِ أحدٍ من دول الهامش أن يُقوِّضَ نموذجَه الحضارىَّ المُتسيِّد، ولا بطبيعة الحال أن يُقدِّمَ تصوُّرًا مُغايرًا، أقل جنونًا وأكثر اعتدالاً، والأهم أن يكون صالحًا للإجراء وقابلاً للحياة،
والمعنى، أنَّ سياسة ترامب على صَخَبِها تبدو فُرصةً تصحيحيَّةً ناعمة، تُعيدُ فحصَ ثوابت المركزية الغربية، ربما لأول مرّة منذ صلح ويستفاليا فى القرن السابع عشر، وما تأسَّس عليه من كياناتٍ قَوميَّة جائعة، تخطَّت صراعات الدين لتحبِسَ العالم فى محارق الأيديولوجيا، وتُطلِقَ عليه عاصفةً امبرياليَّةً هائجة، تبدَّلت أشكالُها واختلفت إيقاعاتُ حركتها عدَّة مرات، لكنها لم تَنقَضِ تمامًا إلى اليوم.
كانت الحربُ الثانية أقربَ لولادةٍ من الخاصرة للنظام القديم، ولا اختلاف إلَّا فى المواقع والأوزان. أُعيد توزيع التركة، وورثت واشنطن كثيرًا منها. غادرت بريطانيا أرضَ فلسطين لكنها تركَتْ غُولاً صهيونيًّا من ورائها، وتحرَّرت الدُّولُ شرقًا وغربًا، لتُنقَلَ الولاية عليها من سيف الاحتلال إلى مقصلة القانون الدولىِّ المائل، وقيود مُؤسِّسات بريتون وودز.
والنسخةُ الأحدث أطلَّت فى رداء العَولَمة، مُقدِّمةً الاستعمارَ الثقافىَّ على نُسختِه القديمة الحارقة. وإذ يبدو أنَّ النموذج الجديد تَقوَّضَ سريعًا، وسقطت سرديَّاتُ نهاية التاريخ وصدام الحضارات وغيرهما مِمَّا يُؤَدلِجُ خطابَ الهيمنة، فإنَّ الكُفرَ الصريح بالنَّمذَجة والتنميط يُمثِّلُ الخطر الأكبر على رِساليَّة الرجل الأبيض، العابرة من روديارد كبلينج أواخر القرن التاسع عشر إلى اللحظة الراهنة، وتتعاظَمُ الخطورةُ إذ يأتى الإنكار والتجديف من واشنطن على وجه التحديد.
كان ترامب فَردًا فى ولايته الأُولى، لكنه يتضخَّمُ ليصيرَ تيَّارًا فى الثانية. وربما لو تُرِكَ لاستيفاء حِصَّتِه الرئاسية فى الانتخابات التى اقتنصها منه بايدن، ما آلت الأمورُ لحالها الراهنة، وهى أقرب للتبشير بموجةٍ «ترامبية» لن تنكسر سريعًا، ولو خَبَتْ بعد رحيله، فسرعان ما ستتجدَّدُ مرَّة أُخرى، أكان مع نائبه جى دى فانس أو أىِّ دُونالدىٍّ آخر.
نَفَثَ الرجلُ الصاخب من رُوحِه فى حَلْق اليمين الأوروبىِّ، فحفظوا سِرَّه فى غيبته إلى أنْ عاد لاستلام الراية، وقد لا تنقطعُ علاقةُ التخادُم والإسناد المُتبادَلَة بين الفريقين.
ينحو العالمُ بكاملِه ناحية اليمين، لا لقيمةٍ مخبوءةٍ فى الأجندة التى سبقَتْ تجربتُها، وخلقَتْ من الأزمات أضعافَ ما تسبَّب فيه غيرُها، إنما لأنَّ البديل بدا عاجزًا عن ملء الفراغ، وتجديد هيئته، والخروج من أَسْر الحالة الرمادية التى تَتَخنَّثُ فيها الأيديولوجيا، وتتداخلُ الخطابات لدرجةٍ تلفيقيَّةٍ مُقلِقَة، وتُغيِّبُ وظيفةَ السياسة الأصليَّة كأداةٍ للفرز والصراع السلمىِّ والتسويات الناعمة، وسيكون على التيَّارات الليبراليَّة، فى الولايات المُتَّحدة أو غيرها، أن تُجدِّدَ شبابَها بوعىٍ واستبصار، أو يجرفها التيَّارُ القومىّ الهادر، لتصير نُسخةً مُصطَنَعةً ومُشوّهة عن النزعة المُحافِظِة.
يُؤدِّى الرئيسُ الجديد اليمينَ الدستورية فى حفل تنصيبه، لا لولايةٍ رئاسيَّةٍ من أربع سنواتٍ فحسب، إنما لإعلان وفاة تيّارٍ عريض تسلَّط على الحزب الديمقراطىِّ ومَسخَ ملامحَه، وعزلَه التحوّلات العميقة بين غالبيّة القاعدة الشعبيّة.
الترامبيَّةُ تَدفِنُ ما تبقَّى من الأُوباميَّة، وتقفُ مُستأسِدَةً فى المجال الغربىِّ الضائع، بينما يعجزُ أو يتكاسل قادته الحاليّون عن تبيان الإخفاقات، وفرز التجارب، وابتعاث أفضلها فى نُسخَةٍ مُحدَّثةٍ، فيَقرأ مُضطرًّا من كتابه العتيق.
أدار السيد دونالد مفاوضات التسوية مع طالبان فى الدوحة، وأقرَّ الاتفاقَ ومَضَى قبل التطبيق، ليُسدِّد السيد بايدن فاتورتَه الكاملة من رصيده الشخصى، ومِمَّا تبقَّى لدى طائفة الساسة التقليديين فى عيون الجمهور.
وبينما سعى الأخيرُ لتكرار الموقف ورَدِّ الهديَّة الماكرة، عبر قرارِ السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى ودقيقة التوجيه ضد الأراضى الروسية، قبل أسابيع قليلة من رحيله عن البيت الأبيض، فإنَّ المشهد الراهن لا يُبشِّر بنجاعة الخطَّة، وقد أبدى «بوتين» ترحيبَه بالتفاوض على إنهاء الحرب، ولا تختلفُ أجندةُ ترامب معه فى كثيرٍ من التفاصيل.
ستهدأ الجبهة حتمًا، لأنها النهايةُ الطبيعة للمعارك، ولأنَّ الجولة استنفدت غايتها، ولم يَعُد فى مقدور طرفٍ منها أن يُغيِّر التوازنُات، لكنها لن تكون النهايةَ التى أرادها حلف الناتو، أو غذَّتْ الإدارةُ الديمقراطية طموحَ الأُوروبيِّين فى اقتناصها من مخالب دُبِّ موسكو العجوز.
كلُّ ما يُساق للتخويف من ترامب قد لا يكون حقيقيًّا. سيتسبَّبُ فى مشكلاتٍ قطعًا، وسيحلُّ غيرها، وتلك طبائع الأمور مع كلِّ الأنظمة والرؤساء. استفاد من سابق تجربته دونَ شَكٍّ، ولديه طموحٌ لصناعة إرثٍ سياسىٍّ يبقى من بَعده، وربما يطمعُ فى إطالة بقائه لو تيسَّرت الفرصة، لكنه سيكون محكومًا طوالَ الوقت بحساباتٍ رياضيَّة مُجرَّدة، يُديرُها التفاوض، وتَحكُم الأرقام على جدارتها وتقويمها الأخير.
لن يخلو المجالُ من لُغَةٍ ساخنة، لأنها تركيبةٌ شخصيَّةٌ راسخةٌ ولن تتبدَّل، لكن لنتذكَّر أنَّ كثيرًا مِمَّا تطلَّع إليه الرجل أو وعَد به فى ولايته السالفة ما تجرَّأ عليه أصلاً، وكان حديثَ عهدٍ بالحُكم وفائرًا بالرعونة والغرور، ومَنطقيًّا سيكون أكثرَ تحفُّظًا فى نسخته الثانية.
يُغازِلُ كندا وجرينلاند الدنماركية أو يُهدِّد المكسيك وبنما، لكنه لن يذهب إلى الحرب قطعًا، ليس لأنها من خارج قاموسِه الثقافىِّ، إنما لأنها تتصادَمُ مع عقيدته الاقتصادية.. والأرجحُ أن سلوكَه الماثِل صورةٌ من فلسفة «الضغط الأقصى» التى اعتمدها مع إيران، وسيعود إليها فى مواجهتهما المُقبِلَة بكلِّ تأكيد.
لن يترُكَ العالمَ كما كان، لكنه لن يُحدِثَ فيه أكثرَ مِمَّا أحدثَه سابقوه التقليديِّون جميعًا من الحزبين، والديمقراطيِّون بوجهٍ خاص، وحقبتهم المريرة من أوباما إلى بايدن بشكلٍ أَخَصّ.
شعارُه «لنجعل أمريكا عظيمةً مرة أخرى»، لكنه ينطوى ضِمنيًّا على استعارةٍ من سلفه البعيد بيل كلينتون لشعار «إنه الاقتصاد يا غبى»، وعليه، فلن يكون ترامب انعِزاليًّا كما يُسوِّق البعض، بل سيُعيدُ تعريفَ الاجتماعيَّة الأمريكية، والولوج إليها من بابٍ آخر.
حروبُه ستكون فى الكلام أكثر من الفعل، وبالإجراءات قبل السلاح، وربما عبر التلويح بها أحيانًا بدلاً من استعجال تفعيلها دائمًا. سيردع إيران، ولن تكون سوريا خارج اهتماماته كما أوحى، والمنافسة مع روسيا والصين ستظلُّ بين الطفو والغرق.
سينحازُ لإسرائيل كما جَرَت العادة وسجَّل فى سوابقه، لكنه لن يُمرِّر أجندة نتنياهو بكامله، وقد يُعَجِّل بالخلاص منه فى وقت وَشيك. أمَّا الأوروبيون وشركاء الناتو، فربما يكونون الأحقَّ بالقلق فى كلِّ السيناريوهات المطروحة والمُقترَحة والمُتخَيَّلة.
الدولة الأمريكية العميقة أمام تحدٍّ أعمق، والنموذج الغربى يُخضَع للمُساءلة من داخله. وعَمَّا قريب سيرحل ترامب مُجدَّدًا، إذ السنوات الأربع هامشٌ ضئيل للغاية فى أعمار البلدان وذاكرة الشعوب.
لا إنكار لأنَّ التهوين قد يكون تفاؤلاً فى غير محلِّه، لكنَّ التهويلَ سياسىٌّ وأيديولوجى بأكثر من كونه مُقاربةً موضوعيّة خالصة. العالم يتغيَّر لأنه استنفد شكلَه القديم، وسيحدث ذلك بترامب أو من غيره، ربما يُسرِّع الرجلُ الوتيرةَ فحسب، لكننا ماضون لسياقٍ غير ما عهدناه فى كلِّ الأحوال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة