حسن، واحد من هؤلاء الذين يطلون علينا كحراس لآدميتنا المهدورة، يحرسوننا حتى من أنفسنا، لديه هذا المزيج الأخاذ من الوجع المستغيث واللطف القاسي من فرط رقته، سواق الأتوبيس المُترع بالحب، أُرغم على الصراخ والكراهية التي فُرضت عليه في مجتمع لم يكن عادلًا، فيشعرك أن صراخه وكراهيته شكل من أشكال الدفاع والمواجهة، فقد زاد الضغط على الوتر المشدود بينه وبين الواقع، هكذا رسم بشير الديك الخطوط الرئيسية لبطل فيلمه الشهير "سواق الأتوبيس" (1982)، الفيلم الذي دشن لرهافة المشروع المشترك مع المخرج عاطف الطيب وأعلن عن كاتب يتمتّع بملاحة الإبداع وبهاء الحكاية الإنسانية، بهذا المعنى، شكّل هذا المشروع حالة مهمة في المشهد الفني المصري، وكشف عن مخرج وكاتب تمتّعا بميزات حرفية لافتة للانتباه، بشير الديك كما عاطف الطيب ومحمد خان الشريك في كتابة القصة وصناعة الفيلم، ومعهم نور الشريف ممثلًا ومنتجًا.. الأربعة بدرجة ما يشبهون "حسن" المحارب المنتصر على عدوه الصهيوني في حرب أكتوبر، والإنسان المهزوم، المجروح على يد خصوم ومناوئين كُثر، أفسدوا الحياة وحولوها إلى بقعة مفتوحة على الجنون والخيبات وهلوسات وهم الثراء السريع بكل نسقه الاستهلاكي، أبرز سمات مرحلة السبعينيات التي تركت ندوبها وآثارها في وجدان صناع الفيلم.
نحو أكثر من 60 عملًا خرجت من جرابه المُتْرَع والزاخر بالحواديت، وتقاسمتها السينما مع المسرح والدراما التليفزيونية، لكن يظل حسن هو النموذج والتجسيد المثالي لـ بشير الديك ورفاقه الموزعين على فضاءات الحلم، الشخصية العصية على النسيان أو الإغفال، حضورها قوي لدرجة أنه برحيل كاتبها عن عمر يناهز 80 عامًا، يظهر حسن "سواق الأتوبيس" ليتصدر أغلب التقارير الصحفية التي تنعي بشير الديك، ويؤكد أنه صورة لجيل عانى الخذلان وعاشه، صورة لهذا الكاتب المولود في في 27 يوليو 1944 بقرية صغيرة تقع على شاطئ البحر بمحافظة دمياط، عرف فيها حكايات البحر وأساطيره، فصارت شريعته في الخيال، هذا غير روايات الأسلاف من رموز الأدب المصري والعالمي، ما ساعده كي يتخطى دراسته في كلية التجارة مرغمًا بضغط من والده، وينشر القصة القصيرة في المجلات الثقافية المصرية والعربية، ثم ينضم إلى جماعة جاليري 68 الأدبية التي أسسها إبراهيم أصلان مع جميل عطية إبراهيم ومحمود الورداني، قبل أن يتجه إلى السينما بخطوته الاستهلالية "مع سبق الإصرار" (1978) إخراج أشرف فهمي، أول أفلامه التي توالت بعد ذلك لتزيد عن الأربعين فيلمًا وضعته في مساحة خاصة على خريطة السينما، بينما إنسل "سواق الأتوبيس" فيلمه الذي لامس القلب، كنقطة نور جسورة أضاءت الدرب وجعلتنا كمشاهدين نحدق جيدًا في أثر العابرين، وندرك التحولات التي أصابتنا تاريخيًا وجغرافيًا.
جاء هذا الفيلم تحديدًا ليكون منعطفًا مفصليًا في السينما والواقع، به استهل بشير الديك وعاطف الطيب تعاونهما الذي أسفر لاحقًا عن أفلام مثل: ضربة معلم ( 1987)، الهروب (1991)، ضد الحكومة (1992)، وناجي العلي في نفس العام، جبر الخواطر (1998)، كان الاثنان يكملان بعضهما، إنه ما عبر عنه بشير الديك في أكثر من حوار وتصريح صحفي حين وصف الطيب بأنه "توأم روحه"، لقد قاما سويًا بالخوض في واقع تغمره الأحزان والانكسارات، وتتخلله الرغبة في النجاة.
"حسن" واحد من فرسان هذا العصر، يمضي في براري لا نهاية لها بين هاويتين: هاوية الحرب الذي خلُص منها وصعد ظافرًا بالنصر والعبور، وهاوية المجتمع المتسرب من جذوره والذي كان يسعى فيه ليعيد تكوين المسافات، كي تفيض الحياة بصورتها الدافئة، الودودة كما في تكوينه الأصلي، الشاب الذي خاض أربعة حروب: اليمن، 67، الاستنزاف، أكتوبر 73، يرد في حواره بالفيلم: " كنت في الجيش أخرج من حرب وأدخل حرب"، لكنه حين عاد إلى مجتمعه المدني، لم يجد أمامه غير الانكسار، قلة الحيلة، العجز، الخذلان.. في البداية إنطوى على ظله المهجور، واكتفى بدوره كمواطن، ترس، يدور في عجلة العمل المتواصل، ليهبط على ظله مرة أخرى بالفتات، زوج وأب وسائق أتوبيس يستيقظ فجرًا ليبدأ مهمته اليومية، لا وقت حوله للكلام العاطفي، يقوم بسرعة في يوم شتوي، يشد الغطاء بحركة ديناميكية على زوجته النائمة بجواره، يغسل وجهه ورأسه بماء بارد، يمر على غرفة طفله الصغير، يرمقه بنظرة حانية ويشد عليه الغطاء ثم يكمل ارتداء ملابسه وينطلق.
يجوب شوارع القاهرة بأتوبيسه الذي يزدحم بالناس والحكايات المعجونة بالوجع، ترافقها نغمات الناي الجالب للشجن في تماهي مع الزحام واللهاث وراء الأتوبيس وسقوط إحدى السيدات على الرصيف بقوة التدافع أثناء نزولها، تفاصيل إلتقطتها نغمات الموسيقار كمال بكير، فارس آخر من فرسان الإبداع في هذه الحقبة، كان جسر التواصل الموسيقي في أفلام الثمانينيات بتوجهها المختلف نحو الموضوعات الإنسانية، حيث وضع الموسيقى التصويرية لحوالي عشرة أفلام منها ثمانية مع المخرج محمد خان، ناي كمال بكير في "سواق الأتوبيس" بطلًا رئيسيًا يلازم البطل والناس، كذلك تنويعاته على موسيقى تراثية خالدة، فنجده استهل الفيلم بتنويعة على "الحلوة دي قامت تعجن في البدرية" عند إنطلاق حسن بأتوبيسه، ونشيد "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" في مواضع أخرى، فقد عبرت موسيقى كمال بكير بآلاته الشرقية في هذا الفيلم عن شجون محارب منتصر، عاد إلى الواقع ليصبح بطلًا مهزومًا..
في هذه اللحظة الاستهلالية يلازم نايه المهمشين، المهملين، اليائسين، المحشورين في أتوبيس، حتى يأتي لص ويسرق محفظة امرأة كانت تحكي منذ قليل عن سلع استهلاكية في الجمعية، تدخل الطبلة مع الناي كخفقان قلب، حين ينتبه حسن في المرآة إلى اللص ويغلق أبواب الخروج، فيقفز اللص من النافذة ويهرب، فيهم حسن بمطاردته ثم يتراجع مستسلمًا وهو يصرخ في السيارات التي أطلقت نفيرها حوله:" طيب طيب إنتو روخرين" وينصرف مكملًا طريقه. هذا المشهد الاستهلالي يختصر حالة هذا السائق الذي إنحدرت حياته إلى منزلق صعب، ولتأكيد المعنى جعل بشير الديك وعاطف الطيب مشهد النهاية مغايرًا، إنه نفسه فعل السرقة وصراخ امرأة فقدت راتبها الشهري، لكن حسن لم يعد كما في البداية، فيقفز من مقعده ليطارد اللص بضراوة، دون أن تفزعه المطواة التي يشهرها اللص في وجهه، يواجه هزيمته وإحباطه وينقض على اللص فيما يطلق صيحته الغاضبة: "يا أولاد الكلب .. يا أولاد الكلب"، كيف حدث هذا التحول لسائق الأتوبيس؟ إنه ما فعله بشير الديك في سيناريو بوعي، كشف عن تغير يعتري المجتمع كله ويعريه في لحظة لم تتسع للحالمين، الصابرين الذين أجهضت أحلامهم. هنا تختلط أصوات الناي والطبلة والكمان لتشارك في المرثية، الحكاية التي كتبها بشير الديك راصدًا الفراغ الآدمي الذي حاصر المجتمع بعد حرب أكتوبر 1973، هذا الفراغ الذي أفسد الحياة وظهر سُعاره في العلاقات التي ضاقت بالقيم النبيلة.
حسن ابن الحاج سلطان صاحب ورشة الخشب، الأب النموذجي والقدوة له، يُصارع وحده وحشة واقعه التي استحوذت على كل شيء، وانغلقت على سواد الطمع وتكديس الأموال والتفكك العائلي، يعمل سائقًا لأتوبيس نهارًا ولتاكسي ليلاً، يعاني مع زوجته التي تتمرد على سوء حالته المادية، ويكافح من أجل الحفاظ على ورشة أبيه التي يتخلى عنها الجميع في خضم الجشع والنهم الذي استشرى وتسلط حتى على شقيقاته وأزواجهن الشرهين، الورشة هنا هي رمز للشرف والكرامة وربما للبلد التي خذلوها، إلا حسن ورفاقه من المحاربين، شلة القروانة، جيل الحرب الذي دفع ضريبة التغيير بفداحة، لم يقدم الفيلم صورًا لبطولاتهم على الجبهة، بل كثف إغترابهم عن المجتمع الجديد، كما في هذا المشهد الذي يجتمعون فيه تحت سفح الهرم في ليلة يكتمل فيها القمر، ليتسلل توزيع جديد لنشيد "بلادي بلادي" بإيقاع مفعم بالشجن، بينما يستدعي رفاق السلاح ذكرى الحرب، ويتذكرون رفيقهم صادق الذي استشهد..
صورة عبد الناصر منزوية في ركن بعيد بالورشة، والحاج سلطان يتوارى في منزله متجرعًا مرارة الضعف والخذلان، ثم يقرر في لحظة حاسمة أن يودع ورشته الشاهدة على قوته القديمة، يتأمل تفاصيلها كأنها ترمم أوجاعه، يحكي لابنه الذي يشعر بأحاسيس الخيبة التي تستشري في شرايين وأوصال والده، عن البدايات والكفاح بشرف في زمن مضى قبل الزمن الجديد المتخم بقبح المتآمرين وانتهازيي الفرص، آنين كمان كمال بكير يتسلل كصوت بشري يضج بوليمة الخراب التي استفحلت، في الورشة التي تتابع لقطات مدير التصوير سعيد شيمي لتسجيلها، وتسكينها في الذاكرة حتى لا يفوتنا شيئًا، الأب وابنه في خلاء المكان، يطرق الأب الماضي ويحاول الابن أن يجمع شظايا الحاضر.
هذا المشهد كان الأخير للفنان عماد حمدي في مشواره السينمائي وكذلك في الفيلم قبل أن يستسلم للموت كحصن يلوذ به من حسرته، البطل المهزوم مأواه هو الرحيل، البطولة المهزومة أورثها أيضًا لابنه، حسن هو الامتداد لوالده "سلطان" الخارج من أزمنة أخرى، ناضل وقت الاحتلال الانجليزي، تعارك مع ضابط إنجليزي ثم هرب إلى القاهرة وافتتح ورشته للنجارة وصار "الأسطى" الذي يطلب الجميع وده، حتى جاء هذا الزمن الذي يتهافت المستغلون الجدد لسرقة الورشة وتحويلها إلى بوتيكات تناسب عصر الانفتاح.
لقد تمرس بشير الديك في السيناريو بحالات شتى، تنبع من حقيقة ساطعة تخص جيله الذي تكبد آلام السبعينيات وحملها إلى الثمانينيات، طوَقها وحولها إلى صور إبداعية، تأملية تقطع الطريق إلى آخره، علها تجد أجوبة أو خيط أمل يوحي بأن كل شيء سوف يبدأ من جديد، إنه واقعي ويعرف أن عبور الحاضر الغليظ أصعب من عبور خط بارليف، لكنه يصدق أحلامه ويكتب عن أمثاله الذين يشعرون بالحنين إلى أشياء غامضة فرت من أيامهم وصنعت ما يشبه القطيعة بين الأمس والغد. من هذه النقطة أتقن رسم شخصياته، سواء من أقرانه الذين يقفون على ضفته أو الآخرين المناقضين على الضفة الأخرى، واختيار الحوار المناسب لها، فإن الفيلم عمومًا تكثفت فيه هذه الحالة الفنية المتماسكة والمفعمة بالأسى والنبل، التي صنعت من سواق الأتوبيس مثالًا لحالة إبداعية متكاملة على مستوى الكتابة والإخراج والتصوير والموسيقى والأداء التمثيلي، كان كافيًا للفيلم الذي عُرض أول مرة في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي، وحصل على جائزة العمل الأول لمخرجه في مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس، كذلك فاز نور الشريف بجائزة أفضل ممثل في مهرجان نيودلهي، ليحصل على الترتيب الثامن في قائمة أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وذلك ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 1996، بمناسبة مائة عام سينما، والمركز الـ 33 ضمن قائمة أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية والعربية خلال استفتاء نظمه مهرجان دبى السينمائى الدولى عام 2013.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة