كالعادة يحدث غالبا ما نحذر منه، حيث ينخرط المثقفون - أو لنقل بعضهم - فى جدال لا ينتهى حول تقديرات المواقف والتحليلات والوسائل رغم اتفاق الغايات، نقول هذا بمناسبة جدل ومزايدات لا تزال مشتعلة بين أطراف مختلفة، يحاول كل فريق البرهنة على صحة وجهة نظره وموقفه مما جرى فى غزة، ومدى صحة أو خطأ ما جرى فى 7 أكتوبر 2023 «طوفان الأقصى» من عمليات هجوم وخطف فى غلاف غزة، وهى عملية بالفعل مثلت صدمة للنظام الأمنى الإسرائيلى، لكنها أيضا قادت إلى واحدة من أكبر حملات الانتقام فى التاريخ، شملت دمارا شاملا لغزة، ومبانيها وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، ومئات الآلاف من الجرحى، ومثلهم من المفقودين، ما يجعلنا أمام محرقة لا تقل عن محرقة النازى ضد اليهود، وهو ما يجعلنا نطالب بإدانة محرقة غزة مثلما نفعل مع محرقة النازى ضد اليهود.
الخلاف حول صحة أو خطأ أى عملية، وارد، بين أطراف السياسة والسلاح، مع الأخذ فى الاعتبار أن غزة وإن تعرضت لدمار شامل، فقد صمدت فى مواجهة مخططات تهجير كانت واضحة، وبالتالى فإن من يدعم حل التفاوض هو فى الواقع يرمى لحساب معادلات الخسارة مقابل ما يتحقق من أهداف، وقد فتحت عملية طوفان الأقصى فرصة لنتنياهو ليسوق حرب إبادة، بزعم حماية الأمن ومنع تكرار ما جرى، وهو ما يجعل إعادة التقدير أمرا واجبا.
هذا الحجم من الخسائر بجانب ما نتج عنه من تحولات فى جبهات متعددة فى لبنان وغيرها، يشير إلى أن هذه الجولة تمثل تحولا غير مسبوق فى تاريخ المواجهات، حيث لم تكن الحرب تتجاوز أسابيع، لكنها هذه المرة تجاوزت الخمسة عشر شهرا، وأنتجت تحولات فى موازين القوة، بل إنها كشفت عن ضعف شديد فى جبهات الإسناد، بجانب تراجع واضح لما سمى «تيار الممانعة»، ممثلا فى إيران وحزب الله وسوريا، حيث ظهرت إيران ضمن حملات التباهى بعد عملية طوفان الأقصى، لكن سرعان ما أعلنت أنها لن تدخل فى حرب شاملة، ومن حيث أراد حزب الله أن يساند جبهة غزة، وجد نفسه فى مواجهة هى الأخطر فى تاريخه، والتى أثرت على كل التفاصيل الاستراتيجية فى المنطقة، حيث شن الاحتلال حربا على جنوب لبنان وحزب الله، ونفذ خطة تصفية قيادات الصفين الأول والثانى ونوابهم وخلفائهم، وعمليات الاغتيالات الممنهجة التى بدأت بفؤاد شكر، ولم تنته بالأمين العام السيد حسن نصر الله، وأكثر من 400 قيادة للحزب، بجانب عمليات اختراق وتفجيرات، أشهرها عمليتا «البيجر، والتوكى ووكى»، مثلت ضربات استخبارية وتقنية موجعة.
قبلها دخلت إسرائيل فى مواجهات مباشرة مع إيران باستهداف القنصلية الإيرانية فى دمشق، وتنفيذ اغتيالات لقيادات إيرانية فى جنوب لبنان، ثم تنفيذ اغتيال إسماعيل هنية داخل طهران، الأمر الذى كشف عن ثغرات واضحة فى جبهات بدت فى أعقاب عملية طوفان الأقصى متماسكة، بل إن هذه المواجهات أنهت عقودا من الحروب بالوكالة والتهديدات والدعايات.
كل هذه التفاصيل تشير إلى تحولات بالفعل وانكشاف فى جبهات، بجانب أخطر ما كشفت عنه هذه الحرب أو العدوان، هو سعى إسرائيل لتنفيذ عمليات تجعل غزة غير قابلة للحياة، وكان الحديث مباشرة عن تهجير الغزاوية إلى سيناء أو الضفة إلى الأردن، وهو مخطط تصدت له مصر بوضوح منذ اللحظات الأولى، وكشرت عن أنياب تعرفها إسرائيل جيدا، بل إن مخططات التهجير، بدت قريبة لدرجة أن تنظيم الإخوان - بقنواته - تبنى المخطط الإسرائيلى، بل إن بعضهم نشر تقارير أو أوراقا مزيفة، حيث كان الموقف المصرى حاسما فى مواجهة مخططات التهجير، وأيضا مخططات التصفية، وتفويت كل فرصة لتنفيذ هذه الخطط، والحقيقة فقد خاضت مصر حروبا داخل هذه الحرب، واجهت أكاذيب الاحتلال، ومحاولات استدراج توسع الصراع بلا هدف، تمسكت مصر بقدرتها على المناورة فى مواجهة مناورات متنوعة مدعومة من الولايات المتحدة، وانتهت إلى أن دعمت اتفاقا كاد أن يتعثر ويفشل.
وبالعودة إلى النقطة الأساسية، وهى أن الاختلاف حول أولويات المقاومة السلمية والعسكرية، أو الغايات والوسائل فإن الأمر وارد، وتقديرات المواقف والقوة والأهداف، لكن الاختلاف لا ينفى أن الاحتلال ارتكب مجازر وجرائم حرب ومحرقة ضد الأطفال والنساء، وهناك قضية امام محكمة العدل الدولية عن ارتكاب جرائم إبادة، تستحق أن نلتفت لها ونلتف حولها، وندعم هذا النوع من المساعى لتوثيق جرائم الاحتلال، ونتذكر أن «صورة محمد الدرة» كانت لها نتائج فى العالم أضعاف عمليات أخرى عسكرية، والانتفاضات خدمت القضية مثلما فعلت المقاومة.
الشاهد أن الاختلاف فى الغايات والوسائل، لا ينفى أهمية الدفع نحو تقارب فلسطينى للفصائل، ودعم لتوثيق جرائم حرب وإبادة ومحرقة فى غزة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة