إذا كان القناع المادي الذي يرتديه الممثل قد تطور عبر العصور ليخدم أدوارًا درامية محددة، فإن القناع غير المادي الذي يتقمصه المؤلف يعكس أبعادًا أكثر عمقًا، إذ يتحول إلى أداة لنقل الأفكار والرؤى الفلسفية التي تعكس التوترات الإنسانية والمعرفية، هذا كان المفهوم الذي صاغه الأدب الكلاسيكي في أعمال مثل "هاملت" لشكسبير، وهو ما يظهر جليًا في المعالجة الدرامية للعرض المسرحي "بلاي" تأليف سامح مهران، وإخراج محمد عبد الرحمن الشافعي.
في مسرحية "هاملت" شكّل التردد والعجز عن اتخاذ القرار عمودًا فقريًا للحبكة التي صاغها وليام شكسبير، حيث ارتبط ذلك بفلسفة الوجود ومعنى الحياة، بينما تجاوز سامح مهران في عرض "بلاي" التقاليد الكلاسيكية التي تستند إلى تشريح التردد والعجز عن اتخاذ القرارات، لكن بمنظور عصري، حيث يكسر التقاليد المسرحية الكلاسيكية، ويقدم تجربة فنية تلعب على مستويات متعددة من السرد، باستخدام تقنية "مسرح داخل المسرح"، والتي تتنقل بالمتلقي إلى أبعاد تتداخل فيها الكلاسيكيات مع الواقع، مقدمًا تجربة جمالية تهدف إلى تحطيم الإيهام المسرحي التقليدي، وإعادة تشكيل علاقة الممثل بالجمهور، مقدما رؤية نقدية للفجوة بين الأجيال وللتحديات التي يواجهها الفرد في عالم رأسمالي.
يقدم العرض، تأليفًا وإخراجًا، تجربة فكرية تبدأ من العتبة الأولى/ العنوان "بلاي"، الذي يرمز إلى لعبة درامية غنية بالتساؤلات والأفكار، ويستحضر فيها المؤلف شخصيات شكسبيرية مثل هاملت وماكبث، ليخلق تواصلًا ذكيًا بين الماضي والحاضر، مسقطًا هذه الشخصيات الكلاسيكية على واقعنا المعاصر، من خلال ذلك، يعيد المخرج والمؤلف معًا صياغة فترات تاريخية مفصلية، مثل حقبة ما بعد الانفتاح الاقتصادي، وحالة الهجرة المكثفة للمصريين للعمل في الخليج، لتقديم رؤية فنية جديدة تسلط الضوء على التناقضات الاجتماعية التي ما زالت تؤثر في مجتمعنا الراهن.
يبدأ العرض داخل خشبة مسرح، حيث يستعد مجموعة من الممثلين لتأدية بروفة عرض مسرحي جديد، نظرًا لاقتراب الموسم الجديد، لكنهم يتفاجئون أن مخرج الفرقة سافر للخارج بحثًا عن دولارات الخليج، وهى استعارة درامية كان واضحًا فيها قصدية المؤلف تمرير رسائل تحمل إسقاطات حول تهافت بعض هؤلاء المخرجين الذين يتنحارون فيما بينهم للمشاركة بأعمالهم في مهرجانات عربية من أجل الحصول على دولارات، بغض النظر عن القيمة الفنية التي تقدمها هذه العروض.
وفي إطار التشكيل الدرامي الذي يتجاوز الحدود الزمنية ويمزج بين الواقع والخيال، تتركز أحداث العمل حول رجل يعود من إحدى الدول الخليجية ليجد نفسه في مواجهة فجوة عميقة بين قيمه البخيلة، التي يرى المال فيها تعويضًا عن عمره الضائع، وأفراد أسرته الذين يعانون من فراغ قاتل وبطالة خانقة، في صراع يعكس مفهوم الاغتراب الذي تناوله كارل ماركس في مقارباته النظرية، حيث يصبح الفرد في ظل المنظومة الرأسمالية أشبه بترس صغير داخل آلة ضخمة، تفقده فرديته وتسحق شعوره بالانتماء والذاتية، بينما لا تقدم له في المقابل توازنًا نفسيًا أو إعادة اتصال مع محيطه الاجتماعي، بل تُعمّق الفجوات وتُوسّع شقوق الإحساس بالعزلة.
وتتجسد العقدة الدرامية عندما تصر الزوجة على أن يشترك الأب في نادٍ لولديهما لتجنب الضياع والانحراف، مما يكشف عن صراع داخلي يعكس الفجوة بين الأجيال. الابن الأكبر يحاول التغلّب على البطالة بمتابعة دراسته العليا، بينما يجد الابن الآخر، الذي يحمل اسم "منسي" كدلالة رمزية على التهميش، في الهجرة غير الشرعية خلاصه الوحيد من واقعه القاسي، ليعكس العمل ببراعة تعقيدات الواقع الذي يرزح تحته الشباب بسبب الأوضاع الاقتصادية الضاغطة، ومن خلال حبكته، يعيد تسليط الضوء على قضايا اجتماعية وإنسانية عابرة للزمن، تنتمي للحظة الراهنة بكل أبعادها أكثر من كونها إسقاطًا تاريخيًا مستوردًا.
لكن الأب البخيل، وفي محاولة للتحايل على تكاليف الحياة، يقرر الزواج من جارته الشابة الحسناء، فقط لأنها عضوة في أحد الأندية، وبزواجه منها، يتمكن من الحصول على عضوية النادي له ولأسرته بشكل تلقائي، دون دفع مبلغ الاشتراك الكامل، ويقدم للمرأة مبلغًا زهيدًا، مقارنة برسوم العضوية الباهظة الثمن، مما يعكس استغلاله للظروف بطريقة تثير السخرية، وكأنها صفقة سرية أشبه بتكتيكات الخلايا السياسية القديمة، بعد تحقيق غايته، يقوم بتطليقها فورًا، لكنه يموت فجأة قبل تحقيق خطته الكاملة، في مشهد درامي يُبرز عبثية الوجود وتناقضات الإنسان.
نصوص سامح مهران دائمًا ما تحمل طابع المراوغة والتمرد على القوالب الدرامية الكلاسيكية، مما يجعل التعامل معها تحديًا يتطلب وعيًا عميقًا وحساسية فنية، وقد نجح المخرج محمد عبد الرحمن الشافعي، بحساسيته الفنية المرهفة في هذا التحدي، حيث تمكن من فك رموز النص والتغلغل في معانيه الخفية، ليقدم عرضًا مسرحيًا ثريًا يمزج بين العمق الفكري والجماليات الفنية في تجربة متفردة.
واتسم العرض بتداخل متقن بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات، إلى جانب التنوع في طرق الأداء التي تتراوح بين الكلاسيكية المحكمة والكوميديا ديلارتي، مرورًا بالرقص والاستعراض، هذا التنوع أضفى على العرض حيوية وثراءً، وكشف عن إدراك المخرج العميق لطبيعة النص الذي بين يديه، وقدرته على تشكيله في بناء يبدو عشوائيًا، لكنه في جوهره مدروس بعناية فائقة.
"بلاي" ليست مجرد تجربة مسرحية عادية، بل هي مواجهة مباشرة مع تناقضات وتباينات الحياة، ودعوة لإعادة التفكير في العلاقة الجدلية بين الهوية والواقع. يُسلط العرض الضوء على قضايا اجتماعية وإنسانية معاصرة من خلال معالجة حديثة تمزج بين الفولكلور وأساليب التجريب. ويقدم العمل رؤية شاملة تجمع بين العمق الفكري والإبهار البصري، مما يجعله إضافة مميزة إلى المشهد المسرحي الحديث.
في النهاية قدم العرض معالجة عصرية لإحدى الرؤى الشكسبيرية، مختزلًا قيمًا ومشاعر إنسانية عميقة، ومقدمًا تفسيرًا بسيطًا للحياة رغم تعقيداتها، وربما تحمل رسالة العرض دعوة للبحث عن فرص العيش واغتنامها، وعلى الرغم من ارتدائه عباءة شعبوية مٌخلصة لمنطق الفرجة، إلا أنه أظهر قدرًا واضحًا من التجريب في السرد، والبناء الدرامي، والتشكيل، مما جعله في مجمله عملاً متكاملاً، حيويًا، وثريًا على مستوى الشكل والمضمون.
وكان ديكور دينا زهير ترجمة بصرية دقيقة لرؤية المخرج، ببساطة خفيفة وسهولة في التحريك، مع لمسة غنية بالألوان والإكسسوارات التي أضفت ثراءً بصريًا، كذلك، لعبت الاستعراضات دورًا في تعزيز الحالة الفنية بجمال متوازن، أما على مستوى التمثيل، فقد تألقت عبير الطوخي وجلال عثمان، ليكملا مع باقي العناصر الفنية عرضًا استثنائيًا جمع بين الجاذبية والتجديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة