في الخامس عشر من يناير عام 1971 تم افتتاح السد العالي رسميا بعد فترة تشغيل تجريبية دامت عدة شهور. كان الرئيس السادات قد فضل أن يكون الافتتاح في ذلك التاريخ إهداء لذكرى ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر، ذلك الذي حلم بالسد وبدأ مشروع البناء رغم تحديات التمويل، فكتب على لوحة الافتتاح: "بفضل القائد الخالد جمال عبد الناصر ومن مآثر نضاله وكفاحه المستمر في سبيل الحرية افتتح الرئيس أنور السادات السد العالي".
أربعة وخمسون عاما إذن تمر هذا الأسبوع على بدء تشغيل هذا الكيان الحيوي الذي بدأ العمل فعليا في إنشائه يوم التاسع من يناير من عام 1960، عبر مراحل متعددة، شارك فيها المصريون، في ملحمة تعد واحدة من أهم علامات النضال المصري في تاريخنا المعاصر، ليس فقط على المستوى الاقتصادي والسياسي، بل بما يمثله السد كذلك من تحقيق لإرادة وطنية في مواجهة قوى استعمارية حاولت الوقوف في طريق هذا الإنجاز، وقاومت محاولات إنشائه بكل الطرق الممكنة، ولولا إيمان المصريين بمستقبلهم، وإرادتهم التي كافحوا من أجل تحقيقها لما كان هذا المشروع العظيم، الذي يعد أضخم مشروع في القرن العشرين، تحقيقا لحلم راود المصريين لمرات عديدة على مدار تاريخهم القديم والحديث.
وإذا كان المشروع بصورته الحديثة هو نتاج فكرة تقدم بها مهندس مصري يوناني الأصل، كتب حكايته الصديق وائل السمري في روايته لعنة الخواجة الصادرة مؤخرا، فإن المشروع نفسه كان نتاج اشتراك فئات الشعب المصري جميعها فيه، وربما يكون التاريخ قد وثق تلك المشاركات على المستوى الرسمي بصورة واضحة، مضافا إليها الرؤى الفنية بالأغاني والأفلام التوثيقية، والبعض القليل من الأفلام السينمائية، غير أن هناك جوانب أخرى كثيرة من الواجب علينا، ليس فقط توثيقها، بل العمل على ترديدها وتعليمها أولادنا، لتصبح جزءا من وعيهم بتاريخهم، ويمكننا النظر في هذا المجال إلى رائعة عبد الرحمن الأبنودي جوابات حراجي القط، تلك الخطابات الشعرية البديعة التي وثقت مشاركة فلاح مصري في عملية البناء، والتي نجحت بصورة تجعل من الواجب علينا النظر إلى ما تم توثيقه فعليا من حكايات السد العالي لإعادة إنتاجه في صورة فنية جذابة للنشء والشباب على وجه الخصوص.
وإذا كان لدينا بعض من هذه التوثيقات متمثلة في كتابين أو ثلاثة، حرصت في أثناء عملي بهيئة الكتاب على إعادة إصدار بعضها في طبعات خاصة صدرت في الذكرى الخمسين لافتتاح السد، وهي الكتب التي جمعت بعضا من هذه الحكايات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بصورة ملحة: لماذا لم نول هذه الحكايات الاهتمام الواجب لإعادة إنتاجها كتبا وحكايات وكوميكس ودراما وأفلاما وأغنيات؟ ولماذا لم نحي هذا المشروع في وجداننا مثالا على الإرادة المصرية التي يمكنها قهر الصعب والوصول إلى هدفها؟ هل يكفي فيلم الإنسان والسد أو فيلم الحقيقة العارية أو حتى أغنية قلنا هانبني؟
وإذا كنا الآن في حاجة ملحة إلى دعم هوية أبنائنا وانتمائهم لوطنهم، في زمن صارت فيه هذه الهوية نهبا لكل دخيل عن طريق الإعلام والتعليم وثورة الاتصالات، وفي ظل غياب رؤية ثقافية واضحة لدعم هذه الهوية، فلماذا إذن لا نعتبر حكايات السد العالي جزءا من وعينا بأنفسنا، وجزءا ثابتا من هويتنا التي نحن الآن في أشد الحاجة لرؤية كل إيجابي فيها، فالسد ليس مجرد بناء أو مشروع حيوي لكنه في الأساس رسالة واضحة من التاريخ تدعم ثقتنا بقدراتنا ومقدراتنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة