تبدو إدارة العلاقة مع الحلفاء بمثابة الأولوية القصوى التي يضعها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب على عاتقه، فور وصوله إلى البيت الأبيض، في إطار رؤية تبناها في ولايته الأولى، تقوم في الأساس على حقيقة مفادها أن العبء الذي يشكله أصدقاء واشنطن يفوق في حجمه ما يقدمونه لها من مزايا، وهو ما يعكس العديد من السياسات، التي تبناها خاصة تجاه أوروبا، سواء في صورتها الموحدة، والتي كان تفكيكها بمثابة أحد أهم أهدافه الرئيسية، وهو ما يبدو في دعمه الكامل لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو تجاه حلفاءه الرئيسيين في القارة العجوز، وعلى رأسهم ألمانيا، والتي كانت ذراع أوباما الرئيسي لتنفيذ، أو على الأقل، لتبني رؤاه، سواء على المستوى القاري أو الدولي.
إعادة هيكلة العلاقة مع الحلفاء، ستبقى أولوية قصوى لترامب في نسخته الجديدة، بينما ستتخذ الضغوط التي سوف تبذلها إدارته عليهم أشكالا أخرى مغايرة، منها الحديث المتواتر عن الضم، فيما يتعلق بكندا وجزيرة جرينلاند، وقناة بنما، وهي التصريحات والتي إن اتخذت شكلا هزليا، في بعض الأحيان، إلا أنها تحمل في أحيانا أخرى جانبا كبيرا من الجدية، وهو الأمر الذي يثير مخاوف قطاع كبير من الدول، خاصة في أوروبا الغربية، في إطار تحول الرئيس السابق والقادم، من مجرد الحديث عن تفكيك التكتل القاري، نحو تفكيك الدول، في إطار يعيد إلى الواجهة الحقبة الاستعمارية، وإن كان ذلك بصورة تبدو ناعمة.
ولكن بعيدا عن الحلفاء في أوروبا، تبدو منطقة الشرق الأوسط بمثابة الأولوية، بالنسبة لنا على الأقل، في ظل مستجدات تبدو خطيرة للغاية، مع عدوان متواصل، دخل منذ أكثر من 3 أشهر في عامه الثاني، بينما حمل في طياته إطارا جماعيا ليشمل العديد من دول المنطقة، بدءً من غزة، مرورا بلبنان، وسوريا، وحتى اليمن، مع ضربات متبادلة وعلى استحياء بين إسرائيل وإيران، تدفع المنطقة نحو مستنقع الفوضى، بينما يضع الرئيس القادم نفسه في دور المحرك للأحداث، عبر التأكيد على ضرورة إتمام "صفقة" قبل تنصيبه، من شأنها إطلاق الرهائن، بحسب تصريحه، وهو ما يفهم منه في المقابل وقف إطلاق النار، وهو ما لم يذكره علنا، ولكن يمكن استلهامه من السياق على اعتبار أن الحديث القائم يدور حول "صفقة".
تجاهل ترامب في الحديث العلني عن وقف إطلاق النار في غزة، يتماهى مع مواقفه المعلنة المؤيدة لنتنياهو، بل ويتوافق كذلك مع تهديداته للشرق الأوسط بـ"الجحيم"، إلا أن ما يدور خلف الكواليس ربما يبدو مختلفا، فرئيس حكومة الاحتلال لا يبدو راضيا عن الصفقة المنشودة، وقطاع كبير من ائتلافه الحكومي كذلك، بل ويبدو أن مبعوثه حمل تهديدات مماثلة في الظل إلى اليمين المتطرف في إسرائيل، مع مناوشات صغيرة استهدفت "بيبي" – وهو أحد ألقاب رئيس وزراء إسرائيل – عبر نشر فيديو على أحد منصات التواصل الاجتماعي، لبروفيسور أمريكي يصف فيه نتنياهو بـ"السافل العميق"، لتعلن تل أبيب عدم حضور "بيبي" حفل تنصيب صديقه ترامب.
تباينات مواقف ترامب بين السر والعلن، تفضي في نهاية الأمر إلى العديد من الحقائق، ربما أبرزها أن التنبؤ بمواقف الإدارة المقبلة اعتمادا على التصريحات أو بناء على اختيارات المسؤولين، يبدو مستحيلا، بشكل عام، والأهم من ذلك فإن ترويض رئيس وزراء إسرائيل يبقى أحد أهم أولويات إدارة ترامب الجديدة، بعدما عصا أوامر واشنطن خلال العديد من مراحل الصراع، وهو ما خدم الرئيس الجديد انتخابيا، خاصة خلال خطابه للكونجرس، والذي شهد مقاطعة ديمقراطية، في يوليو الماضي، ولكنه في الوقت نفسه يبدو راغبا في تقديم نفسه في صورة مغايرة للإدارة المنتهية ولايتها، وهو ما يعيد للولايات المتحدة قدرا من كبريائها المفقود.
ولعل الموقف الذي يتبناه ترامب من نتنياهو، لا يعني الإخلال بثوابت أمريكا المنحازة لتل أبيب، ولكنها تعطي مساحة أكبر من المناورة لشركاء الولايات المتحدة، في المنطقة، وهنا أقصد المؤيدين للحق الفلسطيني، في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب في غزة، عبر الترويج للرؤى التي يتبنوها، وعلى رأسها حل الدولتين، باعتباره الأساس الذي تقوم عليه الشرعية الدولية، ناهيك عن كونه إنجازا كبيرا، إن تحقق، سيحسب لصالح الإدارة المقبلة ورئيسها، الذي يبدو ساعيا لتحقيق أمرا استثنائيا.
وهنا يمكننا القول بأن رهانات نتنياهو حول ترامب، في واقع الأمر، لم تكن بالنجاعة المرجوة لسياسي مخضرم لديه من الخبرات التي تؤهله لتقييم كل مرحلة، من جانب، بينما في الوقت نفسه، تعكس أن الرئيس المنتخب لا يمكن التنبؤ بمواقفه، أو بناء صياغات استباقية للسياسات التي سوف يتبناها خلال ولايته الثانية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها الرقعة الجغرافية الأهم بالنسبة لنا، ناهيك عن كونها الأكثر توترا، منذ شهور طويلة، وسط حالة من العجز الدولي عن احتواء الأمور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة