الحقيقة الصعبة أن علم الآثار غائب عن مصر، هذا ما يجعلك عزيزي القارئ تستنكر مقولتي هذه، وترى أن علم الآثار للمصريين فيه باع طويل، ولكننا للأسف عالة على الآخر، بالرغم من أن لدينا كليات للآثار ووزارة للآثار، لكني حقيقة أرى ضوءا أتي من كلية الآثار في جامعة عين شمس، وضوء خافت أتي من كلية الآثار جامعة الفيوم، وعلماء شباب هنا وهناك لا يعرفهم الرأي العام.
إنني أقصد هنا ما فلسفة علم الآثار وماهيته، بعدين غائبين عن الدراسات الأثرية في مصر، فضلا عن تاريخ علم الآثار، وبالتالي هناك فجوة عامة في مصر للتعامل مع الآثار، فالكل يراها موردا لجذب السياح ليس إلا، وليست أداة لفهم ماضينا وبناء رؤى متكاملة له، وأدة لصياغة الهوية الوطنية، الآثار هي للمصريين قبل أن تكون للأجانب، فما هو علم الآثار إذا؟
يهدف علم الآثار إلى الحفاظ على المكتشفات التي تعود للماضي السحيق، وكذلك الماضي القريب بالكشف عنها وحفظها، لكن حدوده لا تقف عند ذلك، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة فهم الإنسان وتطور المعرفة الإنسانية، فالمواد التي يعثر عليها علماء الآثار لا تخبرنا بمفردها بكل شيء فعالم الآثار يضع افتراضات وتساؤلات ليصل إلى رؤية لما تم الكشف عنه.
ومن هنا تأتي الإثارة الناتجة عن هذا العلم.. كيف كنا؟ وكيف نحن الآن؟ بين هذين التساؤلين مساحة واسعة، سواء من حيث الزمن، أو المعرفة، أو التطور الذي لحق بالإنسانية. ويكمن دور علم الآثار في سد الفجوة بين التساؤلين.
ولقد استطعنا اختراق هالة من الضباب الكثيف للماضي البعيد، وذلك من خلال الاكتشافات الجديدة التي تحدث بصورة مستمرة، وبطرح الأسئلة حول طبيعة ما تم اكتشافه والطرق التي أوصلتنا للإجابات الصحيحة على هذه الأسئلة.
لتمتد مساحة معرفتنا إلى ما قبل الكتابة أي إلى التاريخ السحيق الذي يحمل كمًّا من الألغاز المعقدة، لذا فإن علم الآثار علم يقوم على تاريخ الأفكار ونمو نظريات المعرفة لدى الإنسانية والطرق التي تبحث عن الماضي، فبنية علم الآثار لا تعتمد فقط على الأثر لكن أيضًا على سلسلة من التساؤلات تدور حول الأثر ذاته كونه منتجًا لمجتمعات إنسانية تطرح حولها أسئلة مثل: من كان هؤلاء؟ وما الأشياء التي كانت تستهويهم؟ وما الظروف التي عاشوا فيها؟ ماذا كانوا يأكلون؟ كيف تطورت حياتهم؟ ... إلخ. مما يؤدي إلى بناء معرفي معقول عن هذه العصور يشكل لنا إطارًا مرجعيًّا لأسلافنا.
هنا تتحول قضية علم الآثار من مجرد الكشف عن أثر أو الحفاظ على تحفة فنية ليس إلا، إلى معرفة كل شيء عن الحياة الماضية للإنسان، لبناء صورة متكاملة عن حياته.
لذا فالتعامل مع موقع الحفر الأثري المنظم، يهدف إلى تحليل ألغاز هذا الموقع، مما يؤدي لبناء تصور عن المجتمع الذي عاش فيه، وكيف تكيف مع هذا المكان، وسلوكيات هذا المجتمع وطرق معيشته، هذه الأسئلة التراكمية جعلت علمًا خاصًا بها ينمو وتصبح له معطياته، هو علم الآثار الإجرائي الذي يهتم بتراتبية هذه الأسئلة؟ وبطرق حل شفرات الإجابة عليها، ثم بناء تصور بناءً على تتابع هذه الأسئلة عن الموقع الأثري أو اللقى أو المقتنيات الأثرية.
علم أم عدة علوم؟
توسع علم الآثار في العقود الأخيرة، ليصبح علمًا عابرًا للتخصصات، فظهر لنا علم الآثار البيئي الذي عن طريقه يستطيع علماء الآثار ونظراؤهم في العلوم الأخرى من دراسة استخدام الإنسان للنبات والحيوان وتكيف المجتمعات البدائية مع البيئة المتغيرة باستمرار، بينما يعمل علم الآثار العرقي على دراسة حياة الشعوب ورموزها الثقافية على نحو ما قام به لويس بينفورد في دراسته للمجازر التي ارتكبت ضد الإسكيمو في ألاسكا، على جانب آخر يقوم علم الآثار البيولوجي بدراسة النباتات، والحيوانات، والكائنات الحية الأخرى، وعلاقتها بالنظام الغذائي، وعلم الآثار الجغرافي هو اندماج بين علم الآثار وعلم الجيولوجيا من أجل إعادة بناء البيئات البدائية، والتعرف عليها، ودراسة الأحجار، وعلم الآثار الجيني الذي يعني بدراسة ماضي البشرية من خلال استخدام تقنيات علم الوراثة (الجينات). وغيرها من العلوم كاللغات القديمة وتاريخ الكتابة واللغات المقارنة واللغويات.. لكننا سنتوقف أكثر حول الأنثروبولوجيا وعلم الآثار.
اهتمامات الأثري تماثل إلى حد كبير اهتمامات المؤرخ، إلا أن الأثري في عمله يحاول الوصول إلى فترات تاريخية أقدم بكثير من التي يحاول المؤرخ بلوغها، فالمؤرخ يتناول تلك المعطيات التي تتميز بوجود سجلات مكتوبة أو مدونة، علاوة على هذا، فإن دراسته في أغلب الأحيان محدودة بفترة زمنية قوامها الخمسة آلاف سنة الأخيرة من تاريخ البشرية. هنا يغوص الآثاري في عمق الماضي السحيق من خلال إعادة تركيب الماضي مستعينًا في هذا ببقايا الإنسان التي يعثر عليها أثناء الحفر والتنقيب.
يقول جوردون ويللي Gorden willey :"... إن البقايا المادية الخاصة بالحضارات القديمة تشبه إلى حد كبير الأصداف التي قذفت بها مياه البحر إلى الشاطئ، فالتركيب العضوي، وكذا الوظائف الحيوية الخاصة بتلك الكائنات قد اختفت وتلاشت إلى الأبد، بحيث أصبح كل ما تبقى منها مجرد قوالب أو هياكل فارقة تخلو من الحياة، وعلى هذا يمكن القول بأنه إذا أردنا دراسة المجتمعات القديمة، وفهمها لابد من الاعتماد على تلك البقايا التي خلفتها هذه المجتمعات، فهي وحدها التي تعيننا على تحقيق هذا الهدف" (1).
هناك منهجية هامة في علم الآثار قائمة على الاستنساخ، وهي تعرف بقياس التمثيل أو التناظرAnalogy، فالاستنساخ التمثيلي أو التناظريAnalogical Interpretation، يُلجأ إليه عندما يكون الدليل المادي للأثر عاجز عن تقديم تفسيرات مقنعة، وعليه يلجأ الآثاري إلى قياس تمثيلي يتم اختياره من ممارسات المجتمعات التقليدية.
هذه العلوم مجتمعة تشكل لنا طريق لاستعادة الماضي وإعادة تكوينه من جديد عبر المواقع الأثرية، لذا فتعريف الموقع الأثري هنا محدد مهم في هذا الإطار "فهو خير جغرافي يحتوي على مخلفات عدد من الأنشطة البشرية، التقنية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والروحية.
وتكون بقايا هذه الأنشطة – عادة – مجتمعة أو منفردة، أو بعضًا منها، معطيات تقودنا إلى سلسلة من الاستنتاجات والأبحاث التي ترسم صورة الماضي، أما حجم المخلفات فيتراوح ما بين بناية كبيرة إلى بقايا عضوية أو عظام أو مخلفات متنوعة وفقًا للفترة الزمنية، التي استغل فيها الموقع، وحجم ونوع النشاط الذي أقيم فيه. هناك عوامل تؤثر في أي موقع سواء المناخ أو التغيرات الكيميائية وغيرها، لكن في النهاية لا يوجد موقعين متشابهين، لكن يوجد علوم عدة تساعد على إعادة تخيل الموقع والحياة فيه كما كانت.
إن أصعب مراحل استعادة الماضي، هي مرحلة ما قبل الكتابة، حيث تركزت حياة الإنسان داخل الكهوف والمآوي الصخرية، إذ كان يقضي بها جانبًا كبيرًا من فصول الشتاء القارس، فترك بها متعلقاته الشخصية ونفاياته من الطعام. كما خلف على جدرانها العديد من النقوش والرسوم الفنية فضلاً عن الأدوات والمخلفات المادية، حيث يمكن من خلال دراسة هذه الفنون المختلفة التعرف على بعض التفاصيل الدقيقة إلى حد ما، والتي تمكن من إعادة تركيب صور قد تتشابه كثيرًا مع تلك الصورة الخاصة بحياته اليومية التي كان يحياها بالفعل .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة