ربما كان انتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان، نقطة تحول مهمة، ليس فقط على مستوى الداخل، في ضوء ما تحمله الخطوة من انفراجة لأزمة الفراغ الرئاسي الذي عانت منه البلاد لأكثر من عامين، وإنما أيضا فيما يتعلق بمستقبل المنطقة بأسرها، عبر تحقيق قدر من الاستقرار في أحد أهم بؤر التوتر في الشرق الأوسط، والذي من شأنه تبريد أحد الجبهات المشتعلة، خاصة إذا ما نظرنا إلى توقيت الخطوة نفسها، والتي جاءت بعد أسابيع معدودة من اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، في الوقت الذي اشتعل فيه الجوار السوري، بينما تبقى مناطق أخرى في الإقليم تحت نير الاعتداءات الإسرائيلية الغاشمة، على رأسها غزة واليمن وحتى سوريا نفسها، خاصة بعد إعلان بنيامين نتنياهو إلغاء اتفاقية فض الاشتباك، وسيطرة قواته على الجولان.
المستجدات الإيجابية في لبنان، عقب انتخاب الرئيس الجديد، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الأوضاع الإقليمية بصورتها الأكثر شمولا، في ضوء حالة من الارتباط الوثيق بين أطراف فاعلة في المعادلة السياسية اللبنانية، والنظام السابق في سوريا، تحت مظلة ما يسمى بـ"الممانعة"، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن سقوط الأسد في سوريا، مع التراجع الكبير في مقدرات حزب الله، خلق واقعا جديدا في لبنان، يعكس الحاجة الملحة إلى تحقيق أكبر قدر من التوافق بين مختلف الأطياف التي اتسمت علاقتهم بالتنافر الحاد، والذي وصل إلى حد اندلاع حرب أهلية مريرة، دامت لعقد ونصف من الزمان، بينما لم يحقق اتفاق الطائف، وإن كان قد أوقف الحرب، في إنهاء الصراع السياسي.
التغيير في الواقع السياسي تزامن مع تغييرا مهما في واقع مؤسساتي، عبر اختيار رئيس لا يحمل مرجعية حزبية، بينما له تاريخا عسكريا بالوضع في الاعتبار كونه قائدا للجيش على مدار سنوات، وهو ما يمثل أحد أهم النقاط المحفزة لتحقيق حالة التوافق المنشود، في ضوء واقع جديد على النحو السالف الذكر، يقوم في الأساس على تفريغ الدولة من الميليشيات العسكرية، بحيث يكون السلاح ملكا حصريا للدولة، وهو ما يعد بمثابة ضرورة ملحة، ليس فقط تنفيذا لبنود اتفاق وقف إطلاق النار مع الاحتلال وبالتالي حرمانه من ذريعة إشعال الساحة اللبنانية مجددا، وإنما أيضا لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار في الداخل، بينما تبقى الأحزاب القائمة نفسها إلى إعادة هيكلة حقيقية، في إطار إصلاحي، من شأنه تعزيز الحالة السياسية في البلاد، والتركيز على مصلحة المواطن اللبناني الذي عانى كثيرا جراء حالة الانقسام السائدة.
وجود عون في منصب الرئيس في لبنان، يساهم بصورة كبيرة في تعزيز تلك الحالة الإصلاحية، عبر العمل على بناء مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، والتي يبدو الرئيس الجديد أكثر الناس دراية بأحوالها، لتكون قادرة على حماية حدود البلاد من أية تهديدات قد تطرأ عليها، ويفتح الأفاق بصورة كبيرة أمام حالة من الحوار، بين كافة أطياف المعادلة السياسية في لبنان، تكون الأولوية فيها للدولة اللبنانية، بعيدا عن أية تحالفات أو انتماءات أخرى، وهو ما يساهم في تعزيز الأوضاع في الداخل، ويضع أطرا من الاستقرار، بعد عقود من الانفلات والمخاوف جراء اشتعال الأمور أهليا.
وأما عن الأوضاع الإقليمية، فيبقى الاحتماء بالظهير العربي ضرورة لبنانية ملحة في اللحظة الراهنة، في ضوء المستجدات الأخيرة، سواء فيما يتعلق بسوريا، وما طرأ عليها من تطورات متسارعة، وفي القلب منها سقوط نظام بشار الأسد، والذي كان ظهيرا مباشرا لحزب الله، أو التوجهات الأخيرة التي تتبناها القوى الأخرى، في ضوء تغييرات عميقة في المعادلة الإقليمية، عكست في حقيقة الأمر نهاية زمن التحالفات، في صورته التقليدية، في الوقت الذي حل محلها مفهوم الشراكة، والقائم في الأساس على المصالح المشتركة، والتي تعززها العديد من العوامل، وفي القلب منها الهوية والجغرافيا، والتاريخ.
وإدارة العلاقة مع القوى الإقليمية، يبدو جزءً لا يتجزأ مع ملف العلاقات اللبنانية مع العالم، حيث تبقى تلك الرقعة الجغرافية محلا للتنافس الدولي، في ضوء النفوذ التاريخي لفرنسا، والذي تراجع لصالح قوى دولية أخرى، تشابكت مع بيروت، في ظل أزمة العدوان على أراضيها، خلال الأشهر الماضية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وهو ما يضع تحديا آخر، يبدو مشابها للحالة الإقليمية، والتي شهدت تراجعات لقوى نافذة، لصالح قوى أخرى، وهو الأمر الذي يمكن للبنان تحت الرئاسة الجديدة تحويله إلى نقطة انطلاق عبر تحويل تحالفاتها إلى شراكات، تتسم بالتعددية والتنوع، على أساس المصلحة المشتركة.
وهنا يمكننا القول بأن انتخاب الرئيس عون خطوة مهمة ومفصلية على الطريق، عبر إنهاء أزمة الفراغ، إلا أن التحديات تبدو كبيرة سواء في الداخل، عبر توحيد الصف والعمل على بناء المؤسسات، أو فيما يتعلق بالظروف الإقليمية والدولية المحيطة، وهي التي، وإن كانت تمثل تحديا صارخا للأوضاع في الداخل اللبناني، تمثل فرصة حالة انتهاج دبلوماسية أكثر مرونة، لتحويلها إلى مزايا من شأنها تحقيق الصالح العالم للدولة اللبنانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة