الفوضى الخلاقة، هي نظرية أمريكية بامتياز، تعود في الأساس إلى وزيرة خارجيتها السابقة كونداليزا رايس، بينما كان المستهدف بها منطقة الشرق الأوسط، في إطار محاولة صريحة لتقسيم المنطقة من جديد، بهدف إضعافها، وهو الأمر الذي شهد العديد من المراحل المتواترة منذ ذلك الحين، بدءً من العدوان الخارجي في صورة الغزو، على غرار الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم إثارة نزعات الصراع الأهلي، داخل دول المنطقة، كما هو الحال في حقبة "الربيع العربي"، بينما تبدو الأوضاع الراهنة، بمثابة مرحلة أخرى، تسير فيها المنطقة، تقوم في الأساس على تعريض الدول إلى خطر العدوان، وهو ما تشهده غزة، ولبنان اليمن وسوريا، جنبا إلى جنب مع محاولات إحياء حقبة العقد الماضي، في إطار الحالة السورية وقبلها السودانية.
ولعل اعتماد الفوضى كنهج أمريكي لتحقيق أهداف واشنطن، ومن ورائها إسرائيل، في منطقة الشرق الأوسط، بات يقابله نهجا آخر، يعتمد حالة من العشوائية "المنظمة" في السياسات الأمريكية، تساهم بصورة كبيرة في بعثرة الأوراق، وتفتح الباب أمام التكهنات، مع صعوبة التنبؤ بما سوف يسفر عنه المستقبل، وهو الأمر الذي بدأ ربما تزامنا مع صعود دونالد ترامب للمرة الأولى، كرئيس للولايات المتحدة، عقب انتصارا كاسحا على هيلاري كلينتون، ليبدأ معه مسلسل من الأحداث السياسية غير المتوقعة، في ضوء رؤاه التي تبدو للوهلة الأولى مناهضة تماما للثوابت الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بإدارة العلاقة مع الحلفاء والخصوم، واللذان شكلا معا نواة قيادة الولايات المتحدة، عبر سياسات دار في فلكها الغرب، بينما عانى المارقون جراء تداعياتها.
الولاية الأولى لترامب، كانت بمثابة نقطة الانطلاق لسياسة "العشوائية المنظمة"، في إطار انقلابات سريعة على قرارات الأسلاف، وعلى رأسهم باراك أوباما، وهوما يبدو في العديد من القرارات، منها على سبيل المثال الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، في 2018، بعد عامين فقط من دخوله حيز النفاذ، وكذلك الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ناهيك عن مساعي الرئيس السابق، والقادم، لملاحقة قانون الرعاية الصحية، والمعروف باسم "أوباما كير" وغيرها من القرارات، التي استهدفت بالأساس قوانين أو اتفاقات حديثة العهد، وهو ما يمثل في جوهره خروجا مهما عن أعراف الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
إدارة "الإدارة" السابقة نفسها شابها الكثير من ملامح "العشوائية"، ربما أبرزها حجم الإقالات غير المسبوق، في تاريخ أمريكا الحديث والتي طالت أكثر المناصب الحساسية في الولايات المتحدة، على غرار منصب وزير الخارجية والذي تعاقب عليه وزيران أساسيان، وهما ريكس تيرلسون، والذي استهل به ترامب حقبته ليبقى في منصبه لأكثر قليلا من عامين، ليخلفه بعد ذلك وهو مايك بومبيو، والذي استكمل الولاية، وبينهما قائم بالأعمال لأيام معدودة، وهو جون سوليفان
الأمر نفسه ينطبق على كبار مستشاري البيت الأبيض، وعلى رأسهم متخصصو الأمن القومي، حيث تناوب 3 مستشارين على المنصب في السنوات الأربعة التي تشكل ولاية ترامب الأولى، بدءً من هربرت مكماستر، مرورا بجون بولتون، وحتى روبرت أوبراين، ناهيك عن العديد من الوزراء والمسؤولين الذين طالتهم عصا الإقالة والاستبعاد، خلال تلك السنوات، وكذلك الخلافات العميقة، بين الرئيس وكبار المسؤولين، بينما كان الدستور عائقا أمام اقصائهم، منهم رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول، وكذلك نائب الرئيس مايك بنس، والذي انتهت الولاية بانقسام حاد بينه وبين الرئيس، على خلفية رفضه مطلب ترامب بالتقاعس عن الإعلان عن فوز جو بايدن بانتخابات 2021، مما ساهم في بروز مشهد جديد يتجسد في خروج الأنصار نحو اقتحام الكونجرس، يمثل في جوهره نقطة تحول كبيرة في التاريخ الأمريكي.
عشوائية ترامب، ليست في واقع الأمر مجردة، وإنما تحمل في طياتها أهدافا أخرى، ربما أبرزها خلق حالة من الضبابية حول ما ينتهجه من سياسات، غالبا ما تثير الجدل، بينما تساهم في الوقت نفسه في تعجيز المتابعين عن التنبؤ بالخطوة القادمة التي قد يتخذها الرئيس، سواء في الداخل أو الخارج، وهو الأمر الذي أثار حفيظة خصومه الديمقراطيين إلى حد محاولات ملاحقته قضائيا، حتى بعد خروجه من البيت الأبيض، بينما لم يحظى في الوقت نفسه بترحيب قطاع كبير من الجمهوريين، الذي أعلنوا عدم انتخابه في أكثر من مناسبة، ومنهم الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، ونائب ترامب السابق مايك بنس، وغيرهم
الضبابية نفسها تبدو واضحة في علاقة أمريكا بالعالم الخارجي، في ضوء توتر حلفائه في الغرب الأوروبي جراء عودته مجددا إلى البيت الأبيض، بينما يسعى الرجل نفسه إلى إثارة مزيد من الجدل، عبر تصريحاته، حول ضم كندا، وشراء جرينلاند، والسيطرة على بنما، والتي حملت في بعض المناسبات صيغة "المزاح"، بينما في مناسبات أخرى كانت أكثر جدية، مما يساهم بصورة أو بأخرى في تشويش المتابعين، عبر حالة من "العشوائية" التي لم يطلقها جزافا، ولكنها تحمل تكتيكات ورؤى أكثر تنظيما مما قد يتخيله البعض
وهنا يمكننا القول بأن استباق الإدارة الأمريكية المقبلة بالتنبؤات والتوقعات، سواء بناء على استلهام مواقف ترامب السابقة، خلال ولايته الأولى، أو عبر تقييم اختياراته في مختلف مناصب الإدارة، لا يبدو منطقيا، فالمواقف تتغير عند الرجل سريعا، والمناصب في عهده غير مضمونة إطلاقا، بينما يبقى الأمر الذي يبدو بحاجة إلى الالتفات، خاصة فيما يتعلق بمنطقتنا، ليس مجرد التصريح المجرد الصادر عن الرئيس المنتخب، أو حتى ما تنبئ عنه اختياراته، بشكل مباشر، وإنما ما يرتبط بصورة أكبر برؤيته، وأهدافه، وتفاعلات تلك الحالة الناجمة عن صعود ترامب إلى السلطة في أمريكا بالمتغيرات الكبير على الساحة الدولية، وما يمكن أن تؤول إليه في نهاية المطاف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة