حازم حسين

حضور واشنطن وغيابها فى غزة.. عن ألاعيب نتنياهو الوقحة وفرصة بايدن الأخيرة

الأربعاء، 04 سبتمبر 2024 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يسدُّ «بايدن» بابًا على نتنياهو ويفتحُ غيرَه. العجوزُ الذى انقلبت الساعةُ الرمليَّةُ لوجوده فى البيت الأبيض، يُحاولُ استدراكَ ما فاته خلال السنة الماضية فى نحو أربعة أشهر تتبقَّى من ولايته. وعلى خلاف ما تُبدِى إدارتُه؛ فإنَّه يبدو عاجزًا عن تدفيع الاختناق المُستحكم فى قناة الحرب على غزَّة، ومُلحقاتها المُتمدِّدة بين الضفَّة الغربية وجنوب لبنان وغيرهما. وفى أحدث إفاداته، قال الرئيسُ الأمريكىُّ إنَّ زعيم الليكود لا يبذلُ الجهودَ الكافيةَ لإنجاز الصفقة، وفى الوقت نفسه بشَّرَ بقُرب التوصُّل إلى هُدنة. وبينما لا ينسجمُ الطرحان معًا؛ فإنَّه يسعى فى الغالب لزيادة الضغط على عَصَب الحكومة الإسرائيلية، ومُخاطبة شارعِها المُتأجِّج لتسويق جاهزيَّة البديل المُناسب عن سياسة التشدُّد القائمة؛ فكأنَّه ينزعُ غطاءَ الائتلاف اليمينىِّ الحاكم؛ بتَحميله مسؤوليَّةَ عرقلة الاتفاق، ويضخُّ وقودَه فى شرايين الحاضنة الشعبيَّة؛ لتكون عَونًا على تصويب خيارات الحكومة. وجوهرُ المسألة أنَّ واشنطن صارت ميَّالةً فعلاً للتهدئة؛ لكنها تفتقدُ الآليَّةَ الفعَّالة لتحقيقها على الأرض، وقد فرَّطَت فى أوراق قوَّتِها مُبكِّرًا، ولم تعُد لها اليدُ العُليا على الحليف الصغير كما يتوهَّمُ البعض. ولعلَّها تجنى حصيلةَ الخِفَّة التى تسلَّطَتْ على تعاطيها مع «الطوفان» وارتداداته الأُولى، ولا تعرفُ السبيلَ لاستعادة حضورها الوازن فى مُعادلةٍ شديدة الاختلال.
ترقصُ الإدارةُ الأمريكيَّةُ على حبلٍ مشدود، بين أن تُطوِّق نتنياهو وتُروِّض جنونَه المُنفلت، وفى الوقت نفسه لا تتخلَّى عن إسرائيل، أو تبدو كأنها تتحلَّلُ من التزامها الثابت تجاهها بالرعاية والأمن. وربما ما تخشاه فى لُعبةِ الشدِّ والجذب، أن تُقرأَ الرسائلُ على معنىً مُغاير؛ فيختلّ التوازنُ الحَرِج بين الصهيونيَّة والشيعيَّة المُسلَّحة. إنَّ ما يمنعُ تلَّ أبيب من تسعير الحرب على الجبهة اللبنانية، أنَّ الحارسَ الأمريكىَّ يلعبُ ورقة «الردع المزدوج»؛ فيُوفِّر لها الضمانةَ من انفلات الأوضاع، ويُحجِّمُ طموحات محور المُمانعة تحت سقف المُناكفات المحسوبة. وإذا أحسَّ نتنياهو بثِقَل الضغوط فقد يُبادر للتصعيد، وكذلك إيران لو قرأت من الصورة ما يحتملُ حيادَ واشنطن، أو إلقاءها للقفَّازات والانصراف من الميدان. وهكذا يصحُّ القولُ إنَّ دخول حزب الله على جبهة غزَّة، أضرَّ القطاع فى السياسة وما أفاده فى الحرب. وجَردةُ الحساب لعملية «الإسناد والمُشاغلة» تكشفُ عن أثرٍ محدود؛ فلا هى امتصَّت قدرًا من غُشومة العدوِّ ولا صلَّبَت ظهرَ الصديق، وفى المُقابل فقد لَعِبَت دورًا مُعزِّزًا لسرديَّة الكابينت الإسرائيلى، وحَرَفت الأنظارَ كثيرًا عن نكبة الغزِّيين، وأخيرًا تُعقِّدُ مسألةَ الضغط الأمريكى على الحكومة العِبرية، وتوفِّر لها مجالاً للمناورة، وتنتظرُ فى الغالب أن تصرفَ ما قدَّمته تحت لافتة فلسطين، لحساب الهندسة الإقليمية التى تحفظُ لطهران مكانًا على الطاولة، وتصبُّ فى صالح مشروعها السياسى والعقائدى.
تفقدُ الحروبُ قُدرتَها على الحسم كُلّما اتَّسعت وتعدَّدت أطرافُها. والحماسيِّون عندما أطلقوا «طوفان الأقصى» لم يُخطِّطوا له على صِفَة المواجهة المُباشرة بين مُقاومةٍ واحتلال، وفى نطاق القضيَّة حصرًا؛ بل أرادوا على الأرجح أن يكون مُنطلَقًا لصراعٍ واسع المدى، وأن تتَّحِد الساحاتُ الشيعيَّةُ ويتشارك المحورُ فى محصول غزَّة. هكذا استدعت الحركةُ حُلفاءها، وبادرت واشنطن لمُعادلةِ الكَفَّتين، واستمرَّ الطرفان فى مُحاولات خَلط الأوراق وتَوسعة حلقة النار. خطابُ الفصائل توجَّه بكامله لتثوير الشارع العربى، وسعى نتنياهو لاستثارة المُحيط القريب بالإبادة وخطط التهجير، ثمَّ باجتياح رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا؛ لتحويل مصر من وسيطٍ إلى طرفٍ مُباشر، والأمر نفسه فى الضفَّة مُؤخَّرًا؛ لإذابة جبل الجليد من ناحية الأردن. وبعيدًا ممَّا كان فى خيال «السنوار» وقتما أعطى أمرَ التنفيذ؛ فالحال أنَّ تطايُرَ الشَّرَر يمينًا ويسارًا أفاد العُصبة الصهيونيَّة، بأضعاف ما ألقاه عليها من أعباء. فالصيغةُ الحصريّة للنزاع بين مُحتلٍّ وصاحب حقّ، ما كانت لتُغيِّر واقع غزَّة البائسَ بطبيعة الحال؛ لكنها فى الوقت نفسِه لم تكُن لتَسمحَ بإضفاء أبعادٍ أيديولوجيَّة «فوق فلسطينية» على المشهد، أو إدخال المَظلَمَة الصافية فى لُعبة الحسابات الجيوسياسيَّة المُعقَّدة. فكأنَّ القسَّاميِّين، على ما تطلَّعوا إليه من إحكام طوق النار، كانوا يُطوِّقون أنفسَهم بالمُتناقضات وعوامل الوهن الخارجية، وإذ أرادوا قطعَ الطُّرق المُمكنة لانتشال الخصوم من الفخِّ المُعَدِّ لهم، كانوا يقطعونها على فُرَص إنقاذهم أيضًا.
القولُ إنَّ إرادةَ الإدارة الديمقراطية تنصرفُ اليومَ إلى التهدئة؛ بأكثر ممَّا انصرفت سابقًا للحرب وتصليب الموقف الإسرائيلى المُتطرِّف تجاه الفلسطينيين، لا يعنى غسلَ أيدى واشنطن من تُهمة الانحياز، ولا تبرئتها من المسؤوليَّة عمَّا آلت إليه الأوضاعُ بعد أحد عشر شهرًا، ولا عن الكارثة الإنسانية التى أحدثها الصهاينةُ بأسلحةٍ أمريكيَّة خالصة، وربما بإسنادٍ استخبارىٍّ وفى التخطيط والعمل على الأرض أيضًا. الحال أنَّ علاقةَ البلدين ممَّا لا يحتاجُ شرحًا أو تعمُّقًا فى التفاصيل، منذ اعترف الرئيس هارى ترومان بالدولة المُلفَّقة بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من إعلانها. إنما مُقابل الدعم الكاسح قبل الولادة وبعدها، لا تخلو الذاكرةُ من موقف أيزنهاور الحاسم إبان العدوان الثلاثىِّ على مصر، وبعيدًا من أيَّة تفسيراتٍ خفيفة بشأن العمل وقتها مع فرنسا والمملكة المُتَّحدة؛ فالفكرة كلُّها كانت تنحصرُ فيما يُمكن تسميتُه بالمحبَّة العاقلة، والنظر لمَنفعة إسرائيل من زاوية المصالح الأمريكية أوَّلاً، ثمَّ الانضباط وتجاوُز المُغامرات الهائجة بما يترتَّبُ عليها من مخاطر. وقد لعب الاتِّحادُ السوفيتىُّ وقتَها دورًا وازنًا فى عالمٍ ثُنائىِّ القُطبيَّة، وفعلَها مُجدَّدًا فى زمن أكتوبر؛ لكنَّ المُحرِّكَ الأكبرَ لإدارة نيكسون، ورجلِ دُبلوماسيَّته القوىِّ هنرى كيسنجر؛ كان فى استشعار الخطر الداهم على مصالح البلدين معًا. وبايدن إذ رقصَ سابقًا فى موكب الحرب ببراجماتيَّةٍ صاخبة؛ فإنه يستعيدُ اليومَ شيئًا من وقاره بالدَّافعِيَّة نفسِها، ولاعتباراتٍ سياسيَّة ونَفعيَّةٍ لا علاقةَ لها تمامًا بالقِيَم الأخلاقية والدعايات الإنسانيّة.
فكرةُ الأخلاق ذاتُها من أكثر مُنغِّصات السياسة، وأشدّها فاعليَّة فى تعمية الرُّؤية وإفساد المواقف والخيارات. تكتفى «حماس» مثلاً بانطلاقها من أرضيَّةٍ رُوحيَّةٍ تراها ساميةً، ومن دفاعها عماَّ تَعُدُّه «وَقفًا إسلاميًّا»، لا مُجرَّد استيفاءٍ لحقوقٍ وطنيَّة ضائعة. والوقود نفسُه تدورُ به مُحرِّكات «المُمانعة» كُلُّها؛ بعيدًا من التناقض بين السلوك القِيَمىِّ تجاه فلسطين؛ إذا صدقوا فيه أصلاً، وإهدارِ الكرامة والأمن فى أربعِ دُوَلٍ غيرها. والتصوُّر الطُّوباوىُّ الساذج ربَّما أَوهَمَ «السنوار» بأنَّ الأيديولوجيا كافيةٌ لسَدِّ ثغرات الميدان، أو أنَّ الدعائيَّةَ المُسَطَّرة بالدم تنوبُ عن الضابط الشرعىِّ فى المقاصد العُليا، وتحصيل أسباب القوَّة، وعدم الزَّجّ بالنفس فى التهلكة، وتُجنَى ثمارُها بالضغط على ضمير العالم، وتعرية العدوِّ العارى أصلاً. وإذا كانت الأخلاقيَّاتُ لم تُوقِظ الحُلفاء المُمانعين؛ فليس غريبًا أن تعبُرَ على عيون الولايات المُتَّحدة وأسماعها دون أثرٍ يُذكَر. شروطُ النزاعات الوجوديَّةُ تحكمُها قوانين القوَّة حصرًا، بمعنييها الخَشِن والناعم، وما يتَّصل لها من قُدرةٍ على خوض المُباريات الطويلة، والقفز بين الخيارات والبدائل؛ دون تضخيمٍ للانتصارات العابرة أو تهوينٍ من الهزائم المُقِيمة. المُثُلُ هُنا لا تتجاوزُ الغطاءَ الحريرىَّ لكُلِّ السفالات المُعتادة، وعلى رأسِها بطشُ القوىِّ بالضعيف، والدُّوَل تذهبُ وتعودُ إلى المبادئ بانتهازيَّةٍ خالصة؛ ولا فارقَ بين ميليشيَّاتٍ شِيعيَّةٍ، وعصاباتٍ صهيونيَّة، ومُفتَرِسٍ أمريكىٍّ يُنَصِّب تمثالاً للحُريَّة على شواطئه، ويغتصبُها فى كلِّ الشواطئ الأُخرى.
عودةُ «بايدن» اليومَ إلى حظيرة الصواب؛ بغَضٍّ النظر عن تقديرنا لصِدقيَّتِها وإقدامِها المُتذبذب؛ تنبعُ من مصالح مُباشرةٍ أيضًا. الدولةُ العُظمى أوَّلاً وقبل الجميع، تئنُّ من كُلفة الحرب الظالمة فى غزَّة، وما أجَّجته من نزاعاتٍ فى الداخل، ووَصْمٍ وإضرارٍ بالأُصول فى الخارج، وإلى ذلك فإنَّ لديه طموحًا شخصيًّا لإنجاز ما يُبقيه فى الذاكرة أطولَ ممَّا بَقِى فى البيت الأبيض؛ لا سيَّما مع استشعاره لمرارة الخذلان من أقرب الأصدقاء، والتعريض بلياقته السياسية والجسدية بعد خمسة عقودٍ فى العمل العام. لم يتيسَّر له إثباتُ الحضور الجاد طوالَ سنوات الولاية الواحدة، ويُريدُ أن يُعوِّض الفُرَص الكثيرةَ المُهدَرة فى توقيعه بالانصراف. ولأجل إثبات أنه كان قادرًا على مُواصلة المعركة وهزيمة غريمه الجمهورىِّ مرّةً ثانية؛ يلعبُ أوراقَه الأخيرةَ لتحصيل ما يُمكن أن يصُبَّ فى رصيدِ نائبته كامالا هاريس، ويجعله طرفًا أصيلاً فى تفوُّقها المأمول على ترامب، فضلاً عن أنَّ فكرةَ الهزيمة المُحتمَلَة تمَسّه بشكلٍ مُباشر، وقد يُحمِّلُه الديمقراطيِّون ذنبَها من مُنطَلَق أنَّ المُرشَّحةَ المُلوَّنةَ حاملةٌ لإرثه، وما تُسدِّده فى الصناديق سيكون مُقابلَ ارتباكه وإساءته فى المجال العام. لقد كان مُنحازًا لإسرائيل بالقلب، وبكلِّ ما فى رُوحه من صهيونيَّةٍ عَقيديَّة لم يُخفِها، ولم يتوقَّف يومًا عن التباهى بها، والآنَ ينحازُ إليها أيضًا؛ إنما بالعقل، أو على الأقل بقدرٍ محسوب من المشاعر. باعثُه الذاتىُّ يتلاقى مع البواعث الموضوعية، ومع استشعاره بوجوبيَّة أن يتصدَّى للدراما الغَبيَّة التى يكتبُها نتنياهو بافتئاتٍ على الشخوص والوقائع، وأن يُبادرَ لإنقاذه من نفسه، أو إنقاذ بلده الصغير من نزقِه الكبير.
لا عُذرَ إطلاقًا فى الرقص على الجُثَث وأكوام الهَدم والرماد؛ إنما المُقاربة من نقطة غير انفعاليَّةٍ تكاد تكشف عن بُؤسٍ أمريكىٍّ كامل. لقد بدا مُنذ اللحظة الأُولى أنَّ عجوزَ واشنطن لا تُحرِّكُه العاطفةُ أو الثابتُ التاريخىُّ فحَسب؛ بل يُبالغُ فى تظهير الحقائق المعروفة كما لو أنه يدفعُ شُبهةً مُعلَّقةً فوق رأسه. انتُخِبَ نتنياهو أواخر 2022، ولم يستقبلْه سيِّدُ البيت الأبيض على ما جرى العُرف، وكان مُناوئًا صريحًا له فى زمن الاشتباك على خطَّة الإصلاح القضائى. ربما اعتبرَ أنَّ موقفَه بين جُملة الأمور التى شجَّعت حماس على اتِّخاذ قرار الطوفان، أو تحاشى أن يُقرأ أىُّ دخول خافت على الخطّ، باعتباره تصريحًا لمحور المُمانعة بتسعير الحرب، والانخراط بكلِّ قُوَّته فى المُواجهة. ومثلما استُدعِىَ لغُرفة الحرب وبالغَ فى عواطفه تحت طائلة الخوف من تُهمة التَّخَلِّى؛ فإنه فى الانصراف الراهن يتحاشى «عُقدةَ التخلِّى» أيضًا؛ ولو بمعنىً مُضاد، جرَّاء إرخاء الحَبل للمُكوِّن اليمينىِّ المُتطرِّف فى تل أبيب، والمُخاطرة بانزلاق المنطقة ومعها الولايات المتحدة نفسُها فى حربٍ إقليمية، تختمُ رحلتَه السياسيَّةَ بأسوأ النهايات المُوجعة، وتخلى طريقَ ترامب للبيت الأبيض، ولا تفيدُ أحدًا إلَّا نتنياهو وعصابته التوراتيَّة الرديفة.
يُؤخَذُ على «بايدن» أنه تقمَّص صورةَ التابع بارتضاءٍ كامل، ودونَ إحساسٍ بالضِّيق أو رغبةٍ فى التمرُّد. ظاهرُ الولايات المتحدة أنها شرطىُّ العالم القادرُ على إنفاذ إرادته دائمًا؛ لكنّ الواقع مع إسرائيل مُعاكسٌ تمامًا. بأثر المال وجماعات الضغط، وتمدُّد السردية الصهيونية من خلال التيار المسيحانى الغالب على الطبقة السياسية، فإنَّ الفاعلين فى المجال العام الأمريكى أضعفُ من الخروج على الحدود المرسومة لهم. أمريكا قويَّة؛ لكنَّ ساستَها ضُعفاء، وبأثر الهشاشة البشريّة ينفُذُ الصهاينةُ لعقل الدولة ومركز قرارها. لا انكشافَ أكبر من حضور نتنياهو على منصَّة الكونجرس رغمًا عن البيت الأبيض، واضطرار الإدارة لتمرير ورقتها للهُدنة على صِفَة المُقترح الإسرائيلى، ثمَّ الاصطدام برفض زعيم الليكود الصريح، وانفلاته المتكرِّر دون اعتبارٍ لمصالح الحليف الأكبر أو رغباته. يُمكنُ اللوم على عجوز واشنطن أيضًا فى أنه لم يَرُدّْ على التجاوز بما يُماثِلُه، وكانت لديه فرصةٌ ذهبيّة لمُخاطبة الشارع العِبرىِّ مُباشرةً، ووضعه فى صورة الأزمة التى يفتعلُها رئيس حكومته، والمسارات البديلة التى تُجفِّف مُستنقعَ الإخفاق المفتوح منذ أكتوبر الماضى، وتُحصِّن ثوابتَها الاستراتيجية بعيدًا عن مُغامرات الإشعال الكامل، والبحث عن نصرٍ لا أُفقَ له على أرض الواقع. وبشكلٍ من الأشكال؛ فإنَّ تصريحات بايدن الأخيرة أقربُ لفكرة الذهاب رأسًا باتجاه الجمهور.
لقد أفلحَتْ الترسانةُ الحربية المُتراصّة على سواحل المنطقة فى ردع المحور الشيعى، وتكفّلت الكواليسُ المُظلِمة بإبقاء الجبهة عند حدٍّ مقبولٍ من التسخين. البقيّة تتعلَّق على إمكانية اختراق العقلِ الأُصولىِّ فى تل أبيب من داخله، بالمُواءمة مع اعتبارات نتنياهو الشخصية، أو بوَضعه فى مُقابلَ حاضنته الغاضبة دون تغطيةٍ للدعايات المُصطَبِغة بالأيديولوجيا. المُؤكَّد أنه لن يتخلَّى عن مُحاولات الخداع والتضليل، وقد جرَّب أحدثَها فى تصريحاتٍ مُوجَّهةٍ بشأن محور فيلادلفيا، ردَّت عليها الخارجيَّةُ المصرية رسميًّا ببيانٍ يُدين مَوقفَه ويُحمِّله مسؤولية تأجيج الأوضاع وتهديد المنطقة بكاملها. وسيكون على واشنطن ألّا تتباطأ مُجدَّدًا فى تطويق الجناح العنيف من الحكومة، وتسويق مسار التهدئة على نطاقٍ رسمىٍّ وشعبىٍّ واسع؛ بحيث لا يكونُ أمامَ الائتلاف الحاكم إلا أن ينزل عن الشجرة، ويخوضَ معركتَه الداخلية بدلاً من حَرف الأنظار باتجاه نزاعاتٍ مُختلَقَةٍ فى الخارج.
مُهلةُ بايدن لا يتبقّى فيها إلَّا أسابيع، وبعدها سيحتدمُ سِباقُ الانتخابات ولا يعودُ مُمكنًا أن يُسمَعَ صوتُه فى واشنطن أو خارجها. صحيحٌ أنه أقربُ إلى «بطّةٍ عرجاء» حاليًا؛ لكنه ما يزال قادرًا على التواصل مع الفاعلين فى البلدين، وعلى تمرير الرسائل إلى الشارع، وسَحب الأوراق المُشتعلة أو إطفائها فى قبضة نتنياهو. ما كان للأخير أن يستمرئ حالةَ الدولة المارقة؛ إلَّا لأنه لم يُواجَه بنقدٍ جادٍّ وحقيقىٍّ من الإدارة الأمريكية، وما عجزت عنه أسلحةُ الفصائل أو دعاياتُ المحور الشيعىِّ، يسهُل على البيت الأبيض إنجازُه بالرسائل الإعلامية والمُواكبة السياسية الحثيثة. وفى النهاية؛ فإنَّ المسألةَ لا تتجاوز الاعتذار عن الخطأ، ولا تُحسِّن صورةَ الإدارة الديمقراطية بعد كلِّ ما سطّرته فى سيرتها من انحيازٍ وانحطاط. إنها الفرصةُ الأخيرةُ قبل أن يُريق مخبولُ تلِّ أبيب ما تبقّى من شَرف الولايات المتحدة؛ إن كانت فيه بقيّة، وقبل أن يُشيِّع بايدن برعونته وصهيونيّته وسوء إدارته إلى الصفحة الأسوأ فى كتاب العار.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة