يعتقد الكثيرون أن القصص الشعبى ما هو إلا حكايات مثيرة مسلية، لا قيمة لها إلا توظيفها كأعمال درامية ناجحة على غرار مسلسلات ألف ليلة وليلة، أو فى حلقات القصاصين وحكائى الربابة فى عصر ما قبل الراديو والتليفزيون.
وهُم مخطئون فى اعتقادهم ذلك، فالقصص والحكايات الشعبية كثيرا ما تحمل بين سطورها معرفة تاريخية عظيمة القيمة.
فالقصص الشعبى هو قراءة البسطاء والعوام لأحداث تاريخية مهمة لا يعتنى مؤرخوها عادة إلا بمن يلعبون فيها أدوار البطولة كالقادة والحكام، ويدونونها من زوايا صناعها وشهودها البارزين من «الخاصة» لأطرافها المختلفة.. بالتوازى مع ذلك يقدم العامة قراءتهم التى لا تحفل بالانضباط العلمى والتأريخى وأدواته من توثيق وتفنيد ومقارنات وتحليلات، بقدر ما تقدم كيفية رؤيتهم هذا الحدث أو ذاك، حتى وإن شطحت تلك الرؤية فخالفت الواقع بل وعنصرى الزمان والمكان وقواعد العقل والمنطق.
اهتمام المشتغلين بالتاريخ بتلك القراءة الشعبية للأحداث والوقائع وأشخاصها، برغم ما ذكرت من خرق للضوابط التأريخية، ينصَب على تحليل تلك الحكايات والقصص لفهم كيفية تفكير عوام الناس ورؤيتهم الأمور فى زمن نشأة ونمو الحكاية أو السيرة الشعبية التى عادة ما تكون متوارثة شفهيا ومستقبلة للإضافات والتعديلات على مر الزمن، حتى يتم تدوينها فى مراحل لاحقة.
خذ عندك مثلا حكايات على الزيبق، الذى تقدمه باعتباره بطلا مصريا من العامة يقتص لهم من ظلم مقدم الدرك سنقر الكلبى، باستخدام الحيل و«الملاعيب» التى تعلم فنونها من معلمه المدعو أحمد الدنف.
سأفاجئك بأن على الزيبق الحقيقى لم يعش فى مصر ولا كان بطلا مدافعا عن العدل، بل كان يعيش فى بغداد فى العصر العباسى الثانى - الذى تميز بضعف الخلفاء العباسيين وتسلُط القادة العسكريين التُرك وأمراء الحرب - وكان هو نفسه زعيما لطغمة من الأفاقين وعتاة المجرمين أو «البلطجية» بلغة عصرنا، وشَكّل منهم «ميليشيا» خاصة، وقد كان يستغل الفتن المتكررة بين الأهالى السُنة والشيعة فى العاصمة العباسية ليفرض سطوته على قطاعات منها إلى حد إجبار خطباء مساجدها على ذكر اسمه بالدعاء من فوق المنابر، وهو تقليد يختص به الخلفاء والأمراء.
أما أحمد الدنف الحقيقى فتحمل لنا كتب التاريخ المملوكى اسمه باعتباره زعيما لعصابة مسلحة متخصصة فى مهاجمة الأسواق، أو ما يُعرَف بـ«المَنسَر»، وكان أحمد الدنف «شيخ منسر»، أُلقى القبض عليه فى عهد السلطان المملوكى الأشرف قايتباى الذى أمر بإعدامه علنا.
سيرة على الزيبق ظهرت فى عصر الاحتلال العثمانى لمصر، عندما عانى المصريون أعتى صور الظلم والتهميش والقهر، فاستحضر وجدانهم الجمعى شخصيتى الزيبق والدنف باعتبار أن كلا منهما كان متمردا على السلطة الحاكمة، وأعاد صياغتهما كبطلين مصريين مدافعين عن المصريين ضد ظلم الحاكم فى زمن تعطش فيه المصريون لما يشعرهم أنهم لم يعقموا عن أن يأتوا ببطل يقتص لهم من الطغاة الجاثمين على صدورهم.. وسيرة على الزيبق تزدحم بالمصطلحات المرتبطة بعصر الاحتلال العثمانى كمقدم الدرك «صاحب الشرطة» و«راس الغول» وهو «قائد الجند» فـ«رأس» تعنى «رئيس» و«غول/ قول» تعنى «الجندى» «ومنها جاء اسم قرا قول أى الجند الأسود والتى تحولت فى العامية لكراكون».. بل وفى بعض مغامراته نجد أن على الزيبق يتنكر فى «زى الأفندية» وهو مسمى عثمانى بحت.
ومن سيرة على الزيبق لسيرة أقدم وأضخم هى سيرة السلطان المملوكى الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى، الذى يعتبر المؤسس الفعلى لنظام الحكم المملوكى بمؤسساته ونظمه ورسومه.
أحب المصريون بيبرس حتى أنهم قد حولوه فى سيرتهم من مملوك مسه الرق إلى واحد من أبناء الملوك فقد مُلكه وخاض مغامرات ورحلات.. وكان يحكم مصر آنذاك - وفقا للسيرة - ملك صالح من نسل صلاح الدين الأيوبى معروف بـ«نجم الدين أيوب ولى الله المجذوب»، «والمجذوب تعنى المنجذب بقلبه للحضرة الإلهية»، فرأى هاتفا فى المنام يأمره أن يتبنى بيبرس وأن يجعله وريثا لعرشه.. وتستفيض السيرة التى دُوِنَت فى خمسة مجلدات فى ذكر مغامرات بيبرس وبطولاته وسجاياه ومناقبه.
عبرت تلك السيرة الشعبية عن حب المصريين لكل من صلاح الدين الأيوبى الذى يظهر فى أولها قائدا لجيش من الصوفية الذين ينتصرون بالكرامات على أعداء الإسلام، والسلطان نجم الدين أيوب الذى يذكره التاريخ كآخر العظماء من سلاطين آل أيوب، والسلطانة شجر الدر -أول سلاطين المماليك - التى تقدمها السيرة كابنة للخليفة العباسى لا جارية أرمينية كما يذكر التاريخ، وبيبرس الذى كان جعل السيرة له من أبناء الملوك بمثابة ترجمة لتعبير المدح المصرى الشهير «يا أمير يا ابن الأمراء»، وهى مكافأة شعبية لسلطان عظيم قضى مدة حكمه فى مجاهدة المغول والفرنجة المحتلين وأعاد إحياء الخلافة العباسية بعد سقوطها واشتهر بعمل الخير وإقرار العدل والنظام.
وثمة سيرة أخرى لا تقل إثارة هى «سيرة الملك سيف بن ذى يزن»، والتى نقرأ فيها مغامرات سيف بن ذى يزن باعتباره ملكا مسلما مدافعا عن بلاد المسلمين ضد ملك الحبشة الطاغية الوثنى «سيف أرعد» الذى يبغض المسلمين حتى ينتهى الأمر بانتصار ابن ذى يزن عليه وتربعه على عرش مصر بعد مغامرات ومواجهات مثيرة ممتلئة بالخوارق والأعاجيب.
أما كتب التاريخ تقول لنا إن سيف بن ذى يزن كان من نبلاء اليمن قبل الإسلام، وأنه كان وثنيا أو فى بعض الروايات ممن اعتنقوا اليهودية فى عهد الملك اليهودى اليمنى يوسف ذو نواس صاحب واقعة أصحاب الأخدود الشهيرة، وعندما تعرض اليمن لاحتلال الأحباش استعان سيف بن ذى يزن بالفُرس لطرد الأحباش، وحكم اليمن حتى اغتاله بعض حراسه فتولى الفُرس حكم اليمن مباشرة.
نشأة تلك السيرة الشعبية تزامن مع عهد السلطان المملوكى الناصر محمد بن قلاوون، والذى شهد عهده عداءً شديدًا بين مملكة الحبشة وملكها المعروف بسيف أرعد الذى اضطهد المسلمون فى مملكته، وهدد المصريين بغزو مصر، بل وبالعمل على قطع مجرى النيل عن مصر، بل وفى عهد هذا الملك الحبشى قام الأحباش بترجمة كتاب المؤرخ القبطى يوحنا النقيوسى - المعاصر للفتح العربى لمصر - للغة الحبشية، وحرفوا الكتاب بإضافة قصص ملفقة عن مذابح منسوبة للمسلمين ضد أقباط مصر!
فانتقم المصريون بخيالهم من سيف أرعد باستحضار سيف بن ذى يزن من طيات كتب التاريخ، وتبنى كسره للأحباش، فجعلوه بطلا مسلما يغزو الحبشة فى عقر دارها.
ولو استفضت فى الحديث عما بين سطور الحكايات الشعبية من تفاصيل تاريخية تترجم فكر ومشاعر عامة المصريين لضاق المجال.. لكننى أقدم تلك النماذج سالفة الذكر لألفت نظر القارئ لما فى القصص الشعبى من ثروة تاريخية نفيسة.. وأحيل القارئ لكتاب أستاذنا الجليل الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم رحمه الله «بين التاريخ والفلكلور»، والذى يشرح فيه باستفاضة تلك العلاقة القوية بين تاريخنا الثرى وقصصنا الشعبى المثير.. والتى أرى أنها - تلك العلاقة - تستحق أن يتم التوسع فى تدريسها، فلا تقتصر على الدارسين الأكاديميين للتاريخ بل أن تدرس لطلاب مدارسنا فى مواد التاريخ المدرسى، بل وربما أتمادى فى أملى أن أرى يوما مادة تحمل اسم «التراث الشعبى» بين مواد التعليم ما قبل الجامعى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة