كانت الساعة الخامسة والنصف صباحا حين تحرك الجيش الإنجليزى من بلبيس بمحافظة الشرقية يوم 14 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1882، متوجها إلى العاصمة القاهرة لاحتلالها، بعد هزيمة الجيش بقيادة أحمد عرابى فى التل الكبير يوم 13 سبتمبر، وكانت القوة التى يقودها الجنرال الإنجليزى «درورى لو» لا يمكن أن تكفى فى الأوقات العادية لاحتلال العاصمة، لكن هزيمة التل الكبير قضت على روح المقاومة، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى».
يذكر الكاتب الصحفى اللبنانى داود بركات، رئيس تحرير الأهرام منذ عام 1901 إلى 1933 فى كتابه «الثورة العرابية بعد خمسين عاما»، أن قائد الجيش الإنجليزى الجنرال ولسلى، لم يضيع الوقت بعد هزيمة التل الكبير، فوجه إلى الزقازيق القوة الهندية، وجعل طريقها الخط الحديدى، وكانت هذه الطرق غاصّة بالجنود الفارين، ولكن لم يطلقوا رصاصة واحدة على الجيوش الإنجليزية، ولما وصل الجنرال «ماكفرزون» إلى الزقازيق، كانت هناك أربعة قطارات مشحونة بالجنود المصريين، فاستولى الإنجليز على ثلاثة منها وفر الرابع، ولكنه اصطدم بعد قليل بقطار قادم من بنها، فاستولى الجنرال الإنجليزى عليهما.
دخلت قوات الاحتلال الإنجليزى القاهرة من طريق شبرا، وكان أغلب هذه القوات من الدول التى تحتلها إنجلترا، ويقول «بركات»، إن الأهالى كانوا مجتمعين آلافا، فلما وقع نظر رمّاحة بنغال وهم من مسلمى البنغال على المآذن والمنائر هتفوا بصوت واحد «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، محمدا رسول الله»، فردت الجماهير الحاشدة على الطرق كلمة الاستشهاد وهى دهشة لهذه المفاجأة الغريبة.
كان المؤرخ والأديب سليم خليل النقاش من القريبين عهدا بأحداث الثورة، وسجل وقائعها فى كتابه «مصر للمصريين» بأجزائه الستة، ويذكر عن حدث دخول القوات الإنجليزية القاهرة، قائلا: «كانت العساكر الإنجليزية قد وصلت زمرا وأفواجا إلى العباسية فى مساء الخميس، وعسكرت فى سفح الجبل فخرج إليها بعض رعاع القاهرة من أهل باب الشعرية والحسينية بالعصى والهراوى قصد محاربتها، فردهم إبراهيم بك فوزى مأمور ضبطية العاصمة يومئذ، وأخذ يراقبهم ويرصد حركات أمثالهم منعا لوقوع الخلل».
بلغ الإنجليز العباسية فى نحو الساعة الرابعة مساء، وفقا للرافعى، مضيفا: «عسكروا فى ثكنات الفرسان بها، وأرسل الجنرال درورى، إلى محمد رضا باشا قائد الجند بالعباسية يطلب إليه تجريد الجنود المصريين من أسلحتهم، وكان عرابى وصحبه مجتمعين فى دار على باشا فهمى الذى كان لم يزل جريحا ملازما بيته بعد إصابته فى معركة القصاصين، فتلقى فى نحو الساعة السادسة مساء تلغرافا من قائد العباسية بوصول طلائع الإنجليز، فأرسل عرابى أمره بالتسليم للقائد البريطانى».
ويذكر عرابى فى مذكراته، أن الخديو توفيق أمر بإلقاء القبض على قيادات الثورة زملاء عرابى، ومنهم، يعقوب باشا سامى وعلى باشا الروبى وحسن باشا الشريعى وعبد الله باشا فكرى، ويضيف: «أمر الخديو بسجنى وسجن جميع ضباط العسكرية وكبار العلماء والرؤساء والذوات والأعيان من جميع البلاد والعمد والمشايخ وغيرهم»
فى كتاب «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر» تأليف الإنجليزى صديق العرابيين ألفريد سكاون بلنت، مراجعة الشيخ محمد عبده، يتحدث عن أنه عندما وصلت الجنود الهندية بقيادة الجنرال درورى إلى العباسية كان وكلاء الخديو قد كسروا قلوب الوطنيين بدسائسهم، ويذكر العوامل التى أدت لهزيمة عرابى فى «التل الكبير»، وكانت «الخيانة» كلمة السر.
ومن دفتر هذه الخيانات يسجل «بلنت» حالات وحكايات مدهشة، منها ما يتعلق بمحمد سلطان باشا، وأخرى عن على يوسف باشا «الشهير بخنفس»، وكان من قيادات الجيش فى معركة التل الكبير، لكنه ترك الميدان برشوة رشاه بها الإنجليز، ومعظم هذه الرشوة زائفة وبها كمية كبيرة من الرصاص، وبعد المعركة امتلأت القاهرة بهذه النقود الزائفة فاشترتها الحكومة بسعر القطعة عشرة أو خمسة فرنكات، وكانت الحوالات البريدية مزورة أيضا، ولكن على يوسف ألح فى أن تكون حوالته موقعا عليها من شخص يعرفه.
أما أحمد عبدالغفار بك فكانت النقود التى ارتشى بها إنجليزية زائفة، فأخذت زوجته بعضا منها، وذهبت إلى زوجة إسماعيل جودت لكى تستبدل بها نقودا أخرى، وكسر الأمير كمال بعض هذه النقود فوجد فى داخلها رصاصا، أما البدو فلم ينخدعوا فإن الخائن سعود الطحاوى لم يقبل سوى الريالات الفضية تسلمها من أحد قواد الإنجليز.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة