وليد فكرى

الثقافة الشعبية والتلوث السوقى

السبت، 14 سبتمبر 2024 04:42 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يعانى مجتمعنا خلطا فاحشا لعدة مفاهيم منها «الشعبية» و«السوقية»، فكلما انتُقِدَ سلوك مبتذل أو بعض مظاهر فساد الذوق، سارع البعض لاتهام صاحب النقد أنه «يتعالى على الثقافة الشعبية للبسطاء»، بانتقاده «نمط حياتهم» الذى «أملته عليهم ظروفهم المادية».
الحقيقة أن من يحسبون أنهم باستخدام مبرر «بساطة الحال» يدافعون عن «الثقافة الشعبية»، يسيئون من حيث لم يقصدوا لتلك الثقافة ولأصحابها، إذ يخلقون ارتباطا شرطيا بين ثقافة البسطاء من ناحية، والسلوكيات المبتذلة والذوق الفاسد من ناحية أخرى، أى أنهم يعززون ذلك الخلط سالف الذكر بين ما هو شعبى وما هو سوقى.


فالثقافة الشعبية أو التراث الشعبى، هو ما تحتفظ به وتتوارثه الذاكرة الجماعية لفئة من البشر «غالبا من الطبقات البسيطة من المجتمع أو من المجتمعات التى لها خصوصياتها كمناطق الريف أو البدو مثلا» من عادات وتقاليد ومعتقدات وحكايات وأمثال وفنون وممارسات، وبطبيعة الحال ففى تلك الموروثات ما هو صالح ومفيد وما هو فاسد وضار.


أما السوقية فهى تعنى كل ما هو فج مبتذل غير مهذب، وهى صفة لا ترتبط بالضرورة بمستوى مادى أو اجتماعى معين، بل نراها يوميا - للأسف - ممن ينتمون لمختلف المستويات.


والثقافة الشعبية لها نصيبها من مظاهر التهذيب والذوق، بشكل يتسم بالعفوية والتلقائية، فالمطالع لكتب التراث الشعبى يجد كما كبيرا من الموروثات الطيبة كالأمثال والحكايات المرتبطة بالأخلاق وتفضيل الخير على الشر، والعادات المتعلقة بآداب التعامل ومفردات الاستئذان والاعتذار والمجاملة، وممارسات المواساة فى الحزن والمباركة فى الفرح، وغيرها، وكون أنها قد تختلف فى مظهرها و«بروتوكولاتها» عن «البروتوكول الحديث» السائد بين الطبقات الأعلى تعليما وثقافة وانفتاحا على الثقافات الأجنبية، لا يعنى أن مفردات وممارسات وعادات الثقافة الشعبية أقل تعبيرا عن تحضُر أصحابها.


ذلك الخلط مثّل الثغرة الواسعة التى تسللت منها السوقية إلى مجتمعنا تحت ستار «الشعبية»، ولننظر لحالة فن الغناء كمثال،
فى ما قبل التسعينيات كانت الأغنية الشعبية مرتبطة بأسماء مثل الفنانين محمد رشدى ومحمد العزبى وفاطمة عيد وأحمد عدوية وأحمد منيب والريس متقال وشفيقة وغيرهم، كان صناع هذا اللون من الغناء يغوصون فى الثقافة الشعبية ويستخرجون منها أجمل ما فيها من مفردات وموسيقى ويعالجونها بإبداعهم كما يعالج الصائغ المحترف الذهب الخام ليقدموا لنا الأغنية الشعبية.


وفى التسعينيات حاول البعض ركوب الموجة «الشعبية»  فداهمنا سيل من «شرائط الكاسيت» لمغنين مجهولين ما أنزل الله بأصواتهم على الفن من سلطان، تتميز أصواتهم بما يوصف بـ«السرسعة»، وأداؤهم عبارة عن صراخ، حرفيا صراخ، ولكم أن تتخيلوا الصراخ الغنائى بصوت «مسرسع»، وكلماتهم كلها تدور حول موضوعات من نوعية «اللى ظلمونى وبكرة أذلهم» أو «الدنيا ظالمانى وجاية عليا وأنا غلبان»، وكان المميز لإعلانات التليفزيون عن هذا النوع من شرائط الكاسيت انتهاء الإعلان بعبارة ثابتة هى «فن وللفن فقط».


أثر هذا سلبا فى نظرة الكثيرين للغناء الشعبى فأصبح مرادفا عندهم للسوقية والابتذال و«الأغنية الهابطة»، ورغم ازدحام عقد التسعينيات بهذه الأمثلة السلبية إلا أنه قد قدم لنا بعض من نجحوا بعد ذلك فى إثبات وجودهم فى مجال الغناء الشعبى كحسن الأسمر، وعبدالباسط حمودة، إلا أنهم قد تعرضوا للظلم لفترة طويلة لوضعهم فى سلة واحدة مع «المطربين الهابطين»، بل وتضمنت الانتقادات أوصافا أراها عنصرية ومتعالية كوصف المطربين الشعبيين لتلك الفترة بـ«مطربى سائقى الميكروباصات والصنايعية»، ولا أعرف أين المشكلة فى ذلك؟ فالمفترض من الفن الشعبى تعبيره عن البسطاء، فأى بأس فى أن يميل له أصحاب المهن البسيطة؟ وهل الانتماء لتلك المهن تهمة لا سمح الله؟ لكنه ذلك «الخلط» المذكور للأسف.


كان هذا الخلط هو «حصان طروادة» الذى تسلل منه الغناء المبتذل تحت صفة «الشعبى»، وأعنى بذلك ما يوصف ب«المهرجانات»، فعندما تنتقد المهرجانات تداهمك الاتهامات بالتعالى على موسيقى البسطاء والشعبيين، وتجد من يقول إن المهرجانات هى لون من الغناء والموسيقى الشعبية، المشكلة هنا ليست فى اعتبارها شعبية، بل فى اعتبارها موسيقى أصلا، فالمهرجان هو مجرد لحن غالب مسروق من أغنية أقدم، يعاد توزيعه بمجرد إدخال مؤثرات كهربائية، وتركب عليه كلمات أغلبها يدور حول أن بطل الأغنية رائع وعظيم ومفعم بالرجولة وأن خصومه الذين يوجه لهم حديثه فى الأغنية هم أوغاد رقعاء منحلون مخنثون، أو موضوعها يتلخص فى حبيبة بطل الأغنية التى يصفها بأوصاف تفصيلية بعضها يندى له جبين أعتى شعراء الغزل الصريح فى الجاهلية، بل أننى قد استمعت لبعض المهرجانات التى تتضمن ألفاظا وأوصافا تدخل فى اختصاص كل من مواد السب والقذف فى القانون الجنائى، ومصطلحات طب النساء والولادة! فهل هذا فن شعبى؟!


أعلم أن بعض الأغنيات الشعبية قد تتضمن كلمات جريئة مثل بعض أغنيات أفراح الريف، أو أوصاف جريئة مثل بعض أبيات القصيدة الأصلية لـ«نعناع الجنينة»، لكن الفارق كبير بين الجرأة والابتذال، يوجد فرق واضح بين «رمان صدرك دوشنى خللى فطورى عشايا» و«أمك صاحبتى»!


أنت حر فى حبك لأغانى المهرجانات، وأنا رغم شدة اشمئزازى منها أرفض منعها، لكن تصنيفها تحت بند الفن الشعبى أو ربطها بالفن الشعبى بأى شكل هو إهانة للثقافة الشعبية، ثم إننى أتساءل: كم عمر المهرجانات لنعتبرها فنا شعبيا؟


ودعونا لا ننسى أننا نقدم مثالا، فلا نركز على العَرَض ونهمل المرض، فكل ما ذكرت عن الغناء الشعبى والمهرجانات إنما هو عَرَض لمرض أكبر هو الخلط بين ما شعبى موروث وقديم وراسخ وله جذور يمكن تتبعها وفهم التاريخ منها، وما هو مبتذل محدث لا جذور له ولا يمثل سوى «ظاهرة مزعجة»، فلا يصح إضفاء حصانة شعبية عليها، ولأضرب لكم مثلا آخر: فى مدينتى الإسكندرية فى موسم الصيف، يشكوا السكندريون من سلوكيات بعض المصيفين، كعدم احترام إشارات وأماكن عبور المشاة، وهو ما يسبب حوادث يومية، أو السير فى الطريق العام عراة إلا من «المايوه»، أو ما هو أكثر خصوصية من الملابس، وهو أمر غير لائق فى مناطق سكنية وطرق عامة، فإذا انتقدنا ذلك كثيرا ما يقال لنا: «هم أناس بسطاء وهذه هى ثقافتهم الشعبية فلا تتكبروا عليهم»، و«دعوا الفقراء يفرحون ببضعة أيام فى السنة»!


نفس الخلط بين الشعبى والسوقى، لطالما ميز «الشعبيون» أنفسهم بين السوقية والشعبية، فلا تنس أنهم من نقلوا لنا قصة «سيدى الذوق» صاحب الضريح فى باب الفتوح بالقاهرة القديمة، عن «سيدى الذوق» الذى حاول التوسط بين الفتوات فى نزاع بينهم، فلما أخفق، قرر مغادرة القاهرة، لكنه سقط ميتا عند بابها فدُفِنَ فيه وقيل «الذوق لم يخرج من مصر».


والمطالع للكتب التى خلدت مفردات الثقافة الشعبية  القديمة كـ«قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»، للعلامة أحمد أمين، وغيره،  يجد بها الكثير من تعبيرات الاستئذان والمجاملة والمواساة والاستئناس قبل دخول البيوت، بل ومنها ما هو بليغ فى بساطته كتحية «العواف» و«فُتُّكُم بعافية» والتى تحمل الدعاء للقوم بالعافية، وهى الحماية من كل ضرر أو سوء، أو ما يمثل موروثا لأدب رفيع كعادة قديمة، هى التصفيق ثلاث مرات قبل دخول البيت والهتاف «دستور»، وهى عادة موروثة من المماليك حيث تعنى كلمة «دستور» طلب الإذن، وعندما يقول الزائر «يا رب يا ساتر» وهو يدخل بيت مضيفه فهو من ناحية ينبه أهل المضيف لمرور رجل غريب ومن ناحية أخرى هو يستحضر صفة الستر عند الله، لأن من آداب الزيارة ستر الضيف ما رأى فى بيت مضيفه، فهل من العدل أن نسمح أن توصم الثقافة التى تضم مثل تلك الآداب والتعبيرات بضم مظاهر السوقية والابتذال؟


إن ما ذكرتُ من مظاهر خلط مفهومىّ «الشعبية» و«السوقية» هو مجرد غيض من فيض، وهى مشكلة تستحق أن نلتفت لها لأنها من ناحية تسمح بوصم تراثنا الشعبى بكل مبتذل ودنىء، ومن ناحية أخرى تعطى ستارا للابتذال يتسلل به لمجتمعنا طالما وجد من يدافعون عنه باعتباره «من ثقافة البسطاء»!










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة