إننا نقف أمام جبل يحجب النور عنا، صخرة قوية، تعرقل طريقنا نحو المستقبل، وتجعله مظلم غير واضح الملامح، فليس الأمر هين بسيط، حتى نتعامل معه بهذه السلبية العجيبة، أو نؤجله إلى نهاية الإصلاح، اذا لا إصلاح مهما كان حدوثه وخطره، وهو قائم على الشكليات والمظاهر، دون أن يكون له أثر في نفس وشعور الإنسان، فكل خطة موضوعة أو إصلاح تطبقه الدولة، دون مراعاة أشياء هي في الصميم، فهي لا تراعي مثلا، طبيعة العقل المحيط بها، ولا ميوله ولا انطباعاته وتعاملاته، فنحن نريد خطة تلمسنا وتناسبنا، لا خطة نستعيرها من غيرنا لنطبقها علينا، فهي مناسبة لمن أنشئت من أجله، فليست الحضارة أو الإصلاح أن نأخذ كوبي بيست، نقل أجوف دون وعي، بما ننقل، والأرض غير الأرض والبيئة غير البيئة، فالعامل الرئيسي هو الغاية من التعليم، ثم نبحث عن الوسيلة، التي تنتهي بنا إليه .
وقد تختلف الواسائل أو تتفق، المهم أن تؤدي ما عليها من رسالة، منوط بها تتعلق بمناهجها، فجميع الدول بها مدارس ومعاهد وجامعات، وهي وسائل قد تتشابه أو تتباعد أوتتقارب، فالأمر الأساسي هو مايتعلمه في تلك المدارس، ما نريد أن نزوده به من سلاح. فالحرية مثلا شيء لا يختلف عليه أحد، الكل يسعى إلى ترسيخ مبدأ الحرية في جميع الشعوب، التي تريد أن تنهض وتتقدم، والحرية كلمة سهلة بسيطة على الألسنة، يتشدق بها الجميع، وينادي بها، ويزعم أنه يمارسها ويحترم كل أراء الأخرين وأفكارهم، إيمانا منه بحرية كل إنسان بما يقول وما يفكر فيه، وفي الواقع العملي لن تجد إلا القليل النادر من يؤمن بها إيمانا صحيحا، فواقع التعليم الذي يتعلمه هو التطبيق لمعرفته أثناء التعليم وغرسه في الأجيال التي تتلقى العلم على أساس منضبط، فالمناهج ربما خلت من حديث الحرية، وقيمتها وأهميتها بالنسبة للفرد والمجتمع الناشيء، ربما كانت هناك إشارات عابرة لا تغني ولا تسمن من جوع النفس إلى المزيد من هذه الوجبات الممنوعة. يجب أن تشحذ المؤسسات نحو هدف لا خلاف عليه، فما تعضدها المدارس ومناهج التعليم، وربما هدم أسسها وأصولها خطباء المساجد، حين يعظون الناس، وكانت هذه الحرية في إعتقادهم هي مذلة الدخول إلى النار، فتهدم بيد ما نبنيه بأخرى، فيجب أن يكون هناك معرفة بما يعوق الهدف، وإزالة هذه المعوقات، وتختلف من أمة لأمة، ومن دولة لدولة، من هنا يجب التخطيط المناسب لنا، لا أن نستورد خطط من الخارج لا علاقة لنا بها، ولن تؤدي إلى نتيجة نرغبها ونتمناها لأمتنا، فكلمة نبدأ من حيث انتهى الأخرون، أكذوبة تهوي بالأمة إلى الحضيض وتعوقه إعاقة كاملة، فألأمة التي وصلت إلى ما وصلت إليه إنما هي نتيجة جهد وعمل وعرق سنوات، حتى يصل إلى ما وصلوا إليه، استخدموا فيها ما يناسبهم من خطط، تعالج القصور في بيئتهم، وتضع الحلول المناسبة، فلم تكن الدول الكبرى تستورد خطط من بعضها البعض، وإن أنتفعت بالإطلاع على تجاربهم وجهودهم، ولكن لم ينقلوا ما رآوه ولو فعلوا ذلك عدلوه بما يتماشى مع طبيعتهم وسلوكهم، ومراعاة ظروفهم، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو ما إلى ذلك من أمور أخرى، يجب وضعها أمام من يريد أن يسلك طريق صحيحا بأمته.
لن يكون هناك إصلاح إذا، وأنت تحشو رءوس النشأ بالعصبية والمغالاة، في اعتقاده، وأنت تهدم بداخله قيمة الرأي الأخر، وأن ما يتعلمه هو دين لا ينبغي له أن يرفضه أو يناقشه، وأن مجرد التفكير فيه وتحليله ومعرفة نقاط القوة والضعف فيه، هو أمر مرفوض,أنت تغلق عليه بابا بأصفاد، تمنع عنه أن يرى الوجه الأخر للأشياء، تقيم الجدران القوية حول عقله، فلا يرى نور ولا صواب في غير ما تلقته قريحته المغلولة بغلول الاستبداد والجهل ...يجب أن تعلمه أن يحب وطنه، ولكن لا يكره أوطان الأخرين، أن يعتنق أفكاره ويدافع عنها، ولا يرفض أفكار الأخرين ويرميها بالعته والسفه، بغير علم ودون أن يطلع عليها، لمعرفة إذا ما كانت كما يدعي أم لا، وأن ظهر له الحق في غير ما يرى وما يعتقد، فلا حرج من الرجوع عنها والإعتراف بخطئه، فالحياة الإنسانية أوسع وأكبر من أن يستحوذ عليها فئة أو طبقة أو فصيل يدعي المعرفة الكاملة، وما عند الأحرين هراء لا نفع فيه، فحين تقرأ في الأدب مثلا، تعرف أن الأدب الرفيع اشتركت فيه الإنسانية من كل ملة ونحلة، حتى هؤلاء الذين لا دين لهم، وقد شاركوا فيه ببصمة تذكر لهم في هذا العالم الكبير الصغير، إنها نفوس من جماعات شتى ألتقوا على عبقرية الإنسان على روعته، في جانب من جوانبه الكثيرة، فكان إنتاجهم من الإنسان وإلى الإنسان حيثما كان، وحيثما وجد، وعبر تواريخه، وهو ضارب في أعماق الزمن، أعلام إنسانية لا يبخس حقها إلا ممسوخ الخلقة، ممسوخ الشعور، ليس له من الإنسان إلا الشكل الظاهر، ولكن روحه لا تمت بصلة لروح إنسان، وكذلك في كل علم من العلوم، وبحث من البحوث، وفلسفة من الفلسفات، فلا إصلاح في التعليم، ولن تسمو بزعامتك حين تخسف بزعامات الأمم الأخرى، وتجور وتظلم وتكذب فاسمو كما تريد بحيادية وعقل، وانتقد أيضا بحيادية وعقل، ولا تعلل قوتك وسطوتك واحتلالك للأخرين بالفخر والإنتصار، وحين يحتلك أخر فهو الجبروت والطغيان، فكلاهما ظلم، وكلاهما خراب، وقبل أن نبني المدارس والمعاهد والجامعات، لا بد أن نبني العقول بناء صحيحا، على أسس صحيحة، فالمدارس والمعاهد والجامعات تفرز لنا آلاف الخريجين ممن يحملون الشهادات والألقاب، وتناقش مئات الرسائل الجامعية كل يوم في ربوع وطننا الحبيب، وإذا بها أوراق معترف بها لكنهاغثاء كغثاء السيل، لا قيمة ولا معنى، بل هي ساهمت في تقليل قدر التعليم والاستهانة به، إذ تساوى في الجهل، من يحمل شهادة ومن لا يحمل، ولعل من لا يحمل أسبق بدرجة حين يتعالى بما حصل عليه من مال، عند انشغال المتعلم بتعلم ما لا أثر له في عقل ولا معاش.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة