تمثل العمارة مجالا إبداعيا وظيفيا (يجمع، على نحو مباشر، بين الوظيفة "الجمالية" والوظيفة "النفعية")، يمكن خلاله، بسهولة، اختبار مدى التأثير لثقافة مهيمنة على ثقافة أخرى. ففي العمارة يصعب كثيرًا الفصل بين جماليات تصميمها والمناخ الذي مثّلت هذه الجماليات استجابة له، أو السياق الذي انبثقت فيه ومنه. وحين يتم "تصدير" طراز معمارى ما، لا يمكن تصدير مناخه معه! وبذلك، تلوح العمارة على المستوى النظري مجالا محصنا بسياقه الخاص، (ويمكن أن نقول: بضروراته الخاصة) لمواجهة ما تفرضه أنماط "الهيمنة" الثقافية.
ولكن، بعيدا عن هذا المستوى النظرى، باتت ثقافات وممارسات معمارية شتى في أرجاء المعمورة متعددة المناخ، خصوصا في النصف الثانى من القرن الماضي، تحتذى نموذجا معماريا بعينه، ينتمي إلى الغرب؛ إلى قيمه الجمالية وإلى مناخه معا، وطبعا ينتمي إلى اقتصاديات خاماته. وإذا كان هذا الاحتذاء بهذا النموذج قد بدأ على نطلق محدود في مدن المستعمرات منذ القرن التاسع عشر، فإنه قد تفاقم، خلال القرن العشرين، مع الانبهار ببعض نماذج عمارة الحداثة، بتصميماتها وخاماتها الجاهزة، وربما المفروضة سلفا، بغض النظر عن المناخ الذى تشيد فيه (ومن هذه النماذج تصميمات جماعة "الباوهاوس Bauhaus"، تصميمات ميس ووالتر جروبياس، وتصميمات لوكوربوزييه، بوجه خاص)، وهى عمارة تم التغنى يوما ما بأنها "طراز عالمى"، قامت فيما قامت على مفاهيم مثل "استهلاك المكان" (بناء أكبر عدد ممكن من المساكن على أضيق مساحة ممكنة من الأرض)، وارتبطت بأفكار حول "الآلة الحديثة للحياة" و"النشوة التكنولوجية للعصر الحديث"...إلخ، ثم امتد هذا الانبهار لتقليد نماذج ما بعد الحداثة (تصميمات ميشيل جرافيس، روبرت ستيرن، وفيليب جونسون الذى تحول من الحداثة إلى ما بعدها) .
وهكذا، مع نهايات القرن العشرين، وبدايات هذا القرن، أصبح عدد كبير من المدن، في شتى أرجاء المعمورة، بما في ذلك العمارة العربية، يحتوي مشاهد متنافرة المعالم، تتجاور فيها أنماط وطرز معمارية محلية ووافدة من بيئة أو من بيئات أخرى، بما يجمع العصور والأماكن، أو يجاور بينها، معا، في الحيز الواحد.. وبما يمزج مزجا غريبا بين جماليات تنتمي إلى موطن ومناخ بعينهما، وأخرى تنتمي إلى مواطن ومناخات مغايرة.
التفاصيل كثيرة، وربما مؤلمة، عن مدن عربية أصبحت الآن إطارا فضفاضا يعبر عن تراكب العصور واختلاط الطرز المعمارية والنأى، من ثم، عن جماليات العمارة العربية التى صيغت مكوناتها ووظائفها، عبر تاريخها الطويل، استجابة لمناخ بعينه (وظيفة "القصبة" في تخطيط الحارات والشوارع لكسر حدة أشعة الشمس، وظيفة "الصحن" في تصميم البيت للإفادة من اختلاف درجتى الحرارة، نهارا وليلا، في مناخ صحراوى قارّى، وظيفة "المشربية" لترشيح الضوء وتنظيم الصلة بين داخل البيت وخارجه.. مثلا).. كما أصبحت غالبية هذه المدن العربية تمثيلات واضحة على الابتعاد عن المفاهيم الأولية، المسلّم بها، حول أهمية التفاعل بين المبنى والخامات المحيطة به، أو أصبحت أمثلة دالة على القطيعة الواضحة مع تراث معمارى يعدّ، يكل المقاييس، متقدما تقنيا وفنيا، وذلك كله رغم المحاولات الحديثة لتطوير هذا التراث؛ ومنها محاولات المهندس حسن فتحى التى تبلور نظرية متكاملة في العمارة البيئية .
حول هذا الوضع العام، الراهن، يمكن أن تثار أسئلة كثيرة، من بينها:
ـ ما المستقبل الذى تمضى إليه مشروعات العمارة العربية المتصلة بموروثها؟ إلى أى حد تستطيع مقاومة المتطلبات الاقتصادية للشركات عابرة القارات (وهى، من قبل، لم تقاوم متطلبات شركات أقل سطوة)؟
ـ ما النتائج، الجمالية وغير الجمالية، لتجاور الطرز المعمارية المتنافرة، التى تنتمي إلى سياقات متغايرة، في كثرة من المدن العربية، ما تأثيرها على ساكنيها وغير ساكنيها؟
ـ هل هناك صيغة معمارية ممكنة تصلح "لعبور المناخات" المتباينة، مثلها مثل رأس المال، والمعلومات، والتكنولوجيا، وكلها قد نمت بلا موطن، وغدت عابرة للحدود وللدول؟
هذه، وغيرها، أسئلة ترتبط بـ"العمارة العربية" في مشهدها الراهن، وهي أسئلة سوف تستدعى في المستقبل المزيد من أسئلة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة