تعيش الكرة الأرضية في العديد من جنباتها، أياماً صعبة من التوتر والقلق والترقب للحروب والأحداث التي تدور رحاها في أماكن متعددة من العالم. ولعل أبرزها وأخطرها على الإطلاق هي الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة التي اقتربت من مرور عام على اندلاعها، وجبهاتها المفتوحة في مناطق مختلفة من الإقليم البائس، سواء في جنوب لبنان مع حزب الله، أو في منطقة البحر الأحمر مع جماعة الحوثي، أو مع الفصائل العراقية المسلحة.
بمنطق "فتش عن المستفيد"، نجد أن بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، هو الرابح الأوحد من استمرار هذه الحرب وتصاعد لهيبها لتطول الشرق الأوسط برمته؛ حمايةً لمستقبله السياسي وبقائه في السلطة أطول وقت ممكن. لهذا قرر "بيبي" خلط جميع الأوراق على حافة تصعيد الصراع، وينبش عن حرب إقليمية تُخرجه من أي محاكمة محتملة داخل تل أبيب أو خارجها، حرب شاملة يُغازل بها اليمين المتطرف حول العالم، وخاصة الداخل الأمريكي!.
فمازال الأمريكيون يتجنبون الصدام مع نتنياهو ويفضلون ممارسة "الضغط الناعم" الذي يبدو أنه لم يعد مجدياً. ويخشى الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن تؤدي زيادة الضغط إلى صدام يفجر أزمة يستغلها مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة خلال الشهرين المقبلين. ويعلم نتنياهو جيداً نقطة الضعف هذه لدى بايدن ويستغلها بلا رحمة، وهو بذلك لا يظهر إسرائيل بصفتها دولة ناكرة الجميل فحسب، بل يهدد دوماً بتدهور حربي خطير. وعندها فإن الضرر الذي سيلحق بالإدارة الأمريكية والحزب الديمقراطي سيكون مضاعفاً، إذ أن التدهور نحو حرب يعني أن نتنياهو نجح في جر الولايات المتحدة إلى صدام لا تريده وتسعى بكل قوتها لتجنبه.
وأكاد أزعم أن كل مسؤول أمريكي حالي أيا كان موقعه، يعلم جيداً هذه الفرضية "النتنياهوية"، ويدرك نوايا "بيبي" الخبيثة في جر العالم لحرب ضروس لا تُحمد عقباها. بل ويتمنى نتنياهو وصول ترامب إلى كرسي البيت الأبيض مرة أخرى، ليعطيه "شيكاً على بياض" يفتك من خلاله بالفلسطينيين الأبرياء ويفعل ما يحلو له في الأراضي الفلسطينية الطاهرة، ويبيد حُلم حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولكن هيهات.. فليذهب طموح نتنياهو إلى الجحيم، ولتمضِ خططه الشيطانية إلى مزبلة التاريخ، طالما أن الدولة المصرية حاضرة بقوة في ملف الوساطة والتفاوض لحلحلة أزمة غزة وإنهاء العدوان الإسرائيلي على القطاع، بالشراكة مع الولايات المتحدة وقطر. فآلية الوساطة الثلاثية تسابق الزمن من أجل تحقيق اختراق فعلي في أزمة غزة تفضي إلى وقف إطلاق النار بالقطاع، وتنفيذ صفقة تبادل بين الأسرى الفلسطينيين والمحتجزين الإسرائيليين. وعلى مدار الأيام الماضية استضافت القاهرة والدوحة اجتماعات ماراثونية للوصول إلى اتفاق تهدئة، إلا أن المراوغة والمماطلة الإسرائيلية المعهودة وتعنت نتنياهو المعلوم، كانا سيد الموقف في معظم جلسات التفاوض، بسبب تمسك رئيس حكومة الاحتلال ببقاء قواته في محور "فيلادلفيا" الحدودوي بين قطاع غزة ومصر، ومحور "نتساريم" وهو شريط ممتد من شرق غزة إلى غربها يمنع حرية حركة الفلسطينيين بين شمال القطاع وجنوبه.
وبين كل هذا وذاك، تواصل الدولة المصرية وقيادتها السياسية المحنكة، الاتصالات والمشاورات المكثفة من أجل تضافر جهود المجتمع الدولي لوقف التصعيد الإسرائيلي المستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووضع حد لتعنت وصَلَفْ حكومة الاحتلال في مسار المفاوضات. وفي الوقت ذاته، تكرر القاهرة تحذيراتها من خطورة التصعيد في المنطقة والانزلاق إلى الفوضى الإقليمية.
وهذا ما ظهر جلياً، خلال لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ يومين في مدينة العلمين الجديدة، مع وفد من الكونجرس الأمريكي، حيث شدد الرئيس على خطورة حالة التصعيد والتوتر التي تشهدها المنطقة بسبب استمرار الحرب على غزة، مؤكداً اعتزام مصر مواصلة جهودها بالتنسيق مع الشركاء بهدف وضع حد لهذه الحرب التي تسببت في كارثة إنسانية بالقطاع. كما شدد الرئيس على ضرورة تضافر جهود المجتمع الدولي لوقف التصعيد الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية، والعمل على تنفيذ ما تم التوافق عليه دولياً ويحظى بشرعية كاملة بشأن حل الدولتين، الذي يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وبما ينقل المنطقة إلى واقع جديد يسوده السلام والعدل والأمن بشكل مستدام، بدلاً من الوضع الحالي الذي يُنذر بالعنف والدمار وإهدار مقدرات الشعوب.
الوفد الأمريكي كان حريصاً خلال اللقاء، على تأكيد الأهمية التي توليها مختلف المؤسسات والدوائر الأمريكية للعلاقات الثنائية والشراكة الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، والتي تمثل حجر الزاوية للاستقرار الإقليمي. وأشار الوفد إلى الدور المصري الراسخ في حفظ الأمن ودعم جهود السلام في المنطقة، وكذلك دور مصر الجوهري منذ اندلاع الأزمة بغزة، سواء على صعيد الجهود المشتركة للتهدئة، أو الدور القيادي في تقديم وتنسيق وإيصال المساعدات الإنسانية.
هذا اللقاء المهم، حمل في طياته عدة رسائل مباشرة وغير مباشرة للعالم، بشأن ملف القضية الفلسطينية، أبرزها التأكيد على رفض مصر القاطع للممارسات الإسرائيلية والتصعيد ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وموقف القاهرة الداعم للفلسطينيين في الوقت الذي يتخلى فيه المجتمع الدولي عن دوره في إقرار السلام والدفاع عن حقوق الإنسان وحق الشعب الفلسطيني في العيش في أمن واستقرار. وشملت الرسائل أيضاً تحذيرات صارمة من حدوث مخاطر وتعقيدات بالغة السوء جراء جرائم كيان الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، والإصرار على ارتكاب مجازر ضد المدنيين العُزل ومنع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثات، لتكون جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.
وفي الختام.. لنتذكر سوياً نبوءة العلّامة المصري الراحل الدكتور جمال حمدان التي سطّرها في كتابه التاريخي "فلسطين أولاً.. إسرائيل"، حينما قال: (المستعمرة الصهيونية في إسرائيل التي بدأت ككلب حراسة للاستعمار على تخوم قناة السويس، وتحولت إلى قاطع طريق لحسابه في الشرق الأوسط، ثم إلى قنبلة موقوتة في قلب العروبة، هي الآن قاعدة عسكرية كاملة أمامية للمعسكر الغربي لا تتجزأ عن نظامه الاستراتيجي العدواني الذي أقامه حول العالم.. إن الصدام بيننا وبين الغرب لن يزول في النهاية إلا بإحدى ثلاث: إما بزوالنا نحن، وإما بزوال الغرب، وإما بزوال إسرائيل، وواضح بحكم كل منطق على الأرض أو تحت الشمس أن لا زوال لنا أو للغرب، ولكن الذي يمكن ويجب أن يزول، وسوف يزول، إنما هي إسرائيل)...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة