من هو المصرى؟
هل هو المنحدر من آباء مصريين؟ أم هو المولود على أرض مصر أيا كانت أصوله؟ وما هو وضع من هاجر إلى مصر واتخذها وطنا له؟
ماذا عن البطالمة والفاطميين والمماليك وحكام أسرة محمد على باشا؟ هل هم مصريون أم أجانب؟
ما هى ظاهرة التمصر؟
فى إجابة هذا السؤال الأخير مربط الفرس.. فالهوية المصرية - كما يثبت التاريخ - أعمق وأكبر من أن تقتصر على عرق أو جنس بعينه..
لم يكن المصريون يوما شعبا متغصبا منغلقا على نفسه، فقد فتحوا أبوابهم وقلوبهم لمن أراد أن يصبح منهم.
فبينما واجه المصريون بقوة وصرامة من هاجروا إلى مصر ثم انقلبوا عليها، وهددوا أمنها واستقلالها ووحدتها كالهكسوس، رحبوا بمن اتخذوا مصر وطنا لهم، حتى إن بعضهم قد خدم فى جيش كبار الملوك المصريين القجماء كالملك المحارب رمسيس الثانى الذى اتخذ من الشردان - وهم من شعوب بعض جزر البحر المتوسط - حرسا شخصيا له، بل ومن قبل رمسيس الثانى، اتخذ الملك المحارب تحتمس الرابع زوجة من مملكة ميتانى - وهى مملكة قديمة قامت فيما بين نهرى دجلة والفرات - أنجبت له ابنه الملك العظيم أمنحتب الرابع.
وقد تولى حكم مصر يوما الملك المحارب شيشنق الأول، وهو المنحدر من أسرة ليبية هاجر جدها السابع إلى مصر وخدم ملوكها هو وأبناؤه وأحفاده حتى تمصروا.
وفى عصر الأسرة السادسة والعشرين من المملكة المصرية الحديثة، هاجر بعض اليونانيين إلى مصر، وأسسوا بموافقة سلطاتها مدينة نقراطيس شمالى الدلتا، ويمكنك أن ترى آثار تلك المدينة فى كل من متحف الإسكندرية القومى والمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية، وقد تعايش المصريون واليونانيون، وأظهر اليونانيون احترامهم حضارة وثقافة مصر حتى إنهم قد شبهوا الإله المصرى آمون بقرينه اليونانى زيوس، وأطلقوا على العاصمة المصرية العريقة طيبة اسم Deus polis magna أى مدينة زيوس العظيمة، وقد وظف الإسكندر الأكبر المقدونى ذلك التقارب بذكاء شديد، عندما زار معبد آمون بواحة سيوة وتلقب بإين آمون، فكأنما هو ابن لآمون المصرى فى أعين المصريين وزيوس الإغريقى فى أعين اليونانيين.
وعندما استكمل كل من بطليموس الأول وابنه بطليموس الثانى بناء الإسكندرية، فإنهما قد حرصا على مزج الثقافتين المصرية واليونانية وضم موروثات الحضارتين العظيمتين لمكتبة الإسكندرية.
وبناء على كل ما تقدم، فإن البطالمة الأوائل ممن وفدوا على مصر قد تمصروا، بينما يعد خلفاؤهم من ملوك العصر البطلمى مصريين بالميلاد والنشأة، فلم يعرفوا لأنفسهم وطنا غير مصر، ولم تكن لهم من هوية خارجة عن حدودها، ففيها ولدوا ونموا وعاشوا ودفنوا، وعلى أرضها قامت دولتهم وازدهرت ثم اضمحلت وماتت.. فلمن ننسبهم إن لم يكن لمصر؟
وعندما استقبلت مصر المسيحية التى بشر بها القديس مرقس الذى انحدرت أسرته من «پنتاپوليس» فى ليبيا الخاضعة آنذاك للحكم الرومانى، وجاء هو إلى مصر من أرض فلسطين، وضع المصريون صبغتهم على المسيحية ومصروها، وأصبحت كنيسة الإسكندرية مهدا للمذهب القبطى الأرثوذكسى، الذى تمسك به المصريون وعدوه مذهبهم الوطنى فى مواجهة الاضطهاد الوثنى الرومانى ثم الاضطهاد المذهبى البيزنطى، وبلغتهم القبطية كتبوا الكتابات الدينية، وجعلوا من مدرسة الإسكندرية للاهوت وريثا للأكاديمية القديمة المعروفة بالموسيون، وأما القديس مرقس - ذو الأصول غير المصرية - فقد حملت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اسمه، فصار لقب البابا القبطى الأرثوذكسى «بطريرك الكرازة - أى البشارة - المرقسية».
ومن العصر القبطى نقطع خطوة واسعة فى مسار الزمن إلى العصر العربى الإسلامى، فإن العرب الذين انتقلوا إلى مصر سرعان ما وصفوا بالمصريين.. ترى هذا بشكل مباشرة فى الكتابات التى تناولت الفتنة الكبرى والتمرد الذى شهده النصف الثانى من فترة حكم الخليفة الراشد عثمان بن عفان، فالذين وفدوا من مصر على المدينة من المتمردين حملوا صفة المصريين، وانتقال أعداد ضخمة من العرب إلى مصر بعد انضمامها للإمبراطورية العربية الإسلامية يوصف فى كتب التاريخ بأنه «واحدة من حركات الهجرة من الجزيرة العربية»، فقد استقر من وفدوا على مصر من العرب وارتبطوا بها وتناسلوا فيها بل وصاهروا بعض أهلها، وطوال العصر العربى الإسلامى شهدت مصر هجرات لقبائل وعشائر عربية استقرت بأرض مصر ولحقت بركب التمصر «ومن واحدة منها وهى قبيلة الجعافرة الهاشمية القرشية فى أسوان ينحدر كاتب هذا المقال»، وأحيل القارئ فى هذا الشأن للكتاب الثرى «هجرة القبائل العربية إلى وادى النيل» للباحث السودانى ضرار صالح ضرار.
وهنا لا بد أن تكون لنا وقفة، فالبعض يرددون بغير فهم عبارة سخيفة تاريخيا هى «كنا بخير حتى استعربونا»، والحقيقة أنى أتساءل عن مفهوم «بخير» فى تلك العبارة، هل هو الاضطهاد البيزنطى الوحشى للمصريين لترك مذهبهم الوطنى واعتناق المذهب البيزنطى الذى وصفه المصريون بـ«الملكانى» إلى حد مطاردة البطريرك القبطى بنيامين واستشهاد شقيقه مينا بعد تعذيبه بوحشية على يد المقوقس قيرس الموفد من هركليوس/هرقل إمبراطور الروم؟أم هو الاستنزاف الرومانى ثم البيزنطى للثروات المصرية؟
وما معنى «استعربونا»؟ إنها كلمة مسيئة للمصريين وصمودهم التاريخى فى مواجهة محاولات طمس الهوية الثقافية لمصر، فأولا لم يفرض العرب ثقافتهم ولا لغتهم على المصريين، وما جرى من قيام الخليفة الأموى عبدالملك بن مروان بتعريب دواوين الدولة كان مجرد إجراء إدارى شمل كل ولايات الدولة، وليس مصر وحدها واقتصر على الدواوين دون باقى مظاهر الحياة اليومية، وثانيا فإن تاريخ المصريين يقول: إن أصحاب تلك الثقافة العريقة العبقرية الذين ابتكروا اللغة القبطية للتصدى للغزو الثقافى اليونانى لم تكن أى لغة- سواء العربية أو غيرها- لتنتشر بينهم بغير سماحهم هم بذلك، وعندما أصبحت اللغة العربية هى السائدة فى مصر، فإنها كذلك قد خضعت للتمصير، فعربية المصريين الفصيحة اختلفت فى بعض مظاهرها عن الفصحى فى أقطار أخرى، وعامية المصريين كانت وما زالت تحمل الكثير من التأثيرات القبطية، وأحيل القارئ للكتاب الرائع «الأعمدة السبعة» للشخصية المصرية للدكتور ميلاد حنا رحمه الله، الذى شرح فى صفحات منه كيف أن الثقافة العربية قد انضمت لأعمدة الشخصية والحضارة المصرية.
الدين الإسلامى نفسه أبت مصر ألا تضع بصمتها المميزة عليه، فمصر التى استقبلت الإسلام بما لديها من ثروة من الموروثات الأخلاقية، سواء من الديانة المسيحية أو الديانة المصرية القديمة، قدمت للعالم رؤيتها الوسطية المعتدلة للتدين، وصارت قبلة لطلاب العلم الدينى، وعلمت المسلمين فى مختلف أنحاء الأرض قراءة القرآن الكريم، تلك القراءة المصرية التى تقتحم بعذوبتها وصدقها القلوب، وكما ضمت سابقا بفخر وافدا عليها هو القديس مرقس، ضمت فى ظل الإسلام بكل اعتزاز أولياء وفقهاء ما زالت أسماؤهم محل إجلال، رغم أصولهم غير المصرية، كالسيدة نفيسة العلم والإمام الشافعى والإمام أبوالحسن الشاذلى والإمام أبوالعباس المرسى، وغيرهم.
فالتمصير إذن ظاهرة تمثل جزءا مهما متواترا من التجربة الحضارية المصرية عبر العصور.
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال المقبل من تلك السلسلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة