قمت فى المقالات السابقة من هذه السلسلة بالرد على ادعاءات أن الاستعمار هو الذى رسم لمصر حدودها، وفى هذا المقال أستكمل الرد على ادعاء لا يقل إساءة لمصر وتاريخها، وهو أن «مصر كانت دوما خاضعة لهذا المحتل أو ذاك».
دعونى أولا أتناول مسألة كثيرا ما كانت موضوعا للجدل-الحاد أحيانا- وهى «التمييز بين الفتح والاحتلال»، لماذا توصف بعض حالات قدوم غزاة لمصر بأنها فتح بينما توصف حالات أخرى بالاحتلال؟ ما هو المعيار التاريخى الذى يمكننا أن نطمئن له، بعيدا عن المعايير العاطفية والانفعالية؟ وكيف نفك ذلك الاشتباك وتلك الفوضى بين المصطلحات؟
بداية، فإن الغزو هو قيام دولة بإرسال قواتها لضم بعض أو كل أراض تابعة لدولة أخرى بالقوة، أما ما بعد ذلك من حكم لتلك الأراضى فهو ما يختلف على وصفه بالفتح أو الاحتلال.
ثمة واقع عملى هو أن كل فتح بالنسبة لطرف هو احتلال لطرف آخر، فالمنتصر سيعتبر تلقائيا أنه قد حقق فتحا عظيما، أما المغلوب فإنه غالبا ما سيصف ما جرى بالاحتلال.
فالبريطانيون عندما اكتمل لهم حكم الهند فى القرن التاسع عشر، اعتبروا أن ذلك فتح كبير، بينما نظر الوطنيون الهنود لذلك باعتباره احتلالا غاشما.
وعندما غزا شعب الڤايكينج بقيادة الملك كنوت 994م- 1035م إنجلترا، وضمها لإمبراطوريته الشمال أوروبية، عد ذلك فتحا يعتز به، بينما اعتبره المعاصرون له من الإنجليز الساكسون محتلا.
وعودة لسؤالنا: ما هى معايير التمييز بين الفتح والاحتلال؟
لقد سمحت لنفسى أن أستنبط خمسة معايير للتمييز، فدعونى أعرضها عليكم.
المعيار الأول: ماذا كان موقف شعب الإقليم الذى تعرض للغزو من دخول الغازى أراضيهم؟ هل قاوموه باعتبار أنه معتد أم تقبلوا قيامه بضم أراضيهم باعتبار أن ما يقوم به هو نوع من الوحدة؟
لو أنهم قد واجهوه بالمقاومة، فهم إذن لا يقبلون انضمامهم لدولته، فعبروا عن رفضهم ضمنيا بالمقاومة، أما إن رحبوا به بل وربما تعاونوا معه بشكل جماعى، فقد عدّوه فاتحا وقبلوا حكمه، ولا يعتد هنا بالحالات الفردية كمقاومة قلة ضئيلة أو قبول وتعاون فئة صغيرة.
المعيار الثانى: هل عامل الغازى الإقليم الذى ضمه وشعبه نفس معاملة باقى أقاليم وشعوب دولته، من حيث تقديم الخدمات ورعاية المصالح والمساواة أمام المؤسسات الحاكمة وقوانين الدولة، أم نظر للأرض التى غزاها باعتبارها مجرد موقع استراتيجى ومصدر للثروات، وعامل أفراد شعبها باعتبارهم مجرد عبيد أو فئة أدنى من شعبه الأساسى؟
والمعيار الثالث: هل كان لأهل الإقليم المضموم دور فى إدارة بلادهم، وتولى المناصب الإدارية فيها بما يخدم مصالحها، أم أن الغازى قد حرمهم ذلك واكتفى بوضع رجاله على رؤوس إداراتهم المحلية؟
المعيار الرابع: ما مدى احترام الغازى لثقافة وموروثات وأنماط حياة الشعب الذى ضمه لدولته؟ ولأية درجة كان اختلاط عناصر الغزاة البشرية بهم ماديا ومعنويا وتأثيرهم وتأثرهم بشكل متبادل بثقافة الإقليم والشعب الذى ضمه إليه؟
أما المعيار الخامس والأخير فهو هل تعرض شعب الإقليم فى مراحل لاحقة لحالات من الظلم أو سوء الإدارة، كان انتقائيا مقتصرا عليهم دون العناصر البشرية التى انتقلت لإقليمهم مع بداية الغزو واستقرت فيه؟ أم أنه كان ظلما وفسادا عاما مؤذيا للجميع؟ وهل ثوراتهم ضد الإدارة الفاسدة كانت ثورة على محتل يريدون إزالة وجوده أم ثورة على وضع يريدون تغييره فحسب؟وهل شاركت كل العناصر البشرية فى الإقليم- الأصلية والوافدة- فى تلك الثورات أم لا؟
هذه هى المعايير التى أتخذها فى دراسة كل حالة على حدة، بغير انحيازات مسبقة ولا تأثر عاطفى ولا أحكام جاهزة كما يفعل البعض للأسف.
فلننظر إذن لحالات الغزو محل الجدل فى ضوء تلك المعايير، غزو الإسكندر وحكم البطالمة وغزو الرومان ثم العرب وحكم المماليك ثم الغزو العثمانى.. وحتى إن اختلفت أحكامنا على كل حالة بسبب الاختلاف الطبيعى-والصحى- فى قراءة التاريخ، بحكم تعدد زوايا قراءته وتنوع منطلقات تلك القراءات، فعلى الأقل ستكون لدينا معايير موضوعية للحكم، لا عاطفية ولا انفعالية.
ثمة مسألة تالية يجب أن نراعيها خلال قراءتنا تلك الوقائع سالفة الذكر وتقييمها، وهى طبيعة المجتمع المصرى باعتباره مجتمعا يتميز بأن له طابعه الخاص فى استقبال المؤثرات الحضارية والبشرية، والتفاعل معها بشكل أراه شديد النضج، فهو مجتمع لا يرفض التفاعل الإيجابى مع الوافد عليه ما دام ذلك الوافد يريد بصدق أن يصبح جزءا من نسيج الحضارة والثقافة والتاريخ المصريين، فيتلقى تأثير الوافد ويؤثر فيه بدوره، ثم يعيد إنتاج وتقديم ذلك المزيج الحضارى للعالم والحضارة الإنسانية بشكل مبهر، فالمصريون استقبلوا الثقافة الهيللينية اليونانية وقدموا اللغة القبطية والفلسفات السكندرية، وجعلوا من مكتبة الإسكندرية «سفينة نوح» لإنقاذ الموروثات الحضارية للعالم القديم من آثار ضربات غزاة شعوب البحر وهجوم الفرس على اليونان ومصر، واستقبلوا المسيحية على يد القديس مرقس، وأصبحت كنيستهم القبطية الأرثذوكسية إحدى أعرق كنائس العالم، واستقبلوا الثقافة العربية وصارت مصر منارة لها ومنبعا للقامات الأدبية العملاقة، واستقبلوا الإسلام فعلموا العالم كيف يقرأ القرآن الكريم وقدموا رؤيتهم الوسطية المعتدلة للإسلام.
أى أن المصريين لم يغلقوا أبواب عقولهم وأرواحهم فى وجه الآخر، وفى الوقت نفسه لم يكتفوا بلعب دور المتلقى المقلد لكل ما يرد ويفد عليهم.
ومن أوجه تلك الطبيعة العبقرية فى استيعاب المصريين وإعادة إنتاجهم المؤثرات، ظاهرة رائعة تتميز بها مصر ألا وهى «التمصير» أو «التمصر».
وهو موضوع المقال المقبل إن شاء الله من تلك السلسلة.. إجابة سؤال مهم: من هو المصرى.. وما هو التمصر؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة