تصرفت حكومة الإخوان - قصيرة العمر - مع الشعب بكثير من الحمق والثقة البلهاء بالنفس، ما دفعهم إلى ممارسات تفتقر إلى أبسط مبادئ السياسة والإدارة، حيث كانوا يعتقدون - بكل غرور وغباء - أن الشعب هو الذى اختارهم، وأن بقاءهم على رأس السلطة لخمسين سنة على الأقل هو أمر مفروغ منه، وأن مموليهم غربا وشرقا سوف يغرقون البلد بأموال تمكنهم من إحكام قبضتهم،ولحسن الحظ أن هذا القدر من الغباء ومن افتقاد القدرة على إدراك حجم وجودهم الحقيقى فى المجتمع، كان هو بالذات سبب انهيارهم.
كنت فى زيارة لمهرجان قطر السينمائى حين تحدثت تيلفونيا مع ابنتى التى أخبرتنى أن الرئيس «مرسى» أعلن أنه فوق الدستور، وأن أعماله لا تخضع لأى نوع من الرقابة، وأنه مطلق الحرية فى ممارسة سلطاته التى هى فى الحقيقة سلطة جماعته الفاشية، وأذكر أننى قلت لابنتى: هذه نهاية هذه الجماعة فالتاريخ يقول إن من يصل احتقاره لجماهير شعبه إلى حد التصور بأنه «معصوم»، سوف يصل إلى النهاية المحتومة.
كان المثقف المصرى هو الأكثر إحساسا بنبض الناس، وكانت حركات التظاهر المحدودة والإضراب عن العمل واعتصامات الشوارع تحرك الجموع الساكنة التى بدأت فى ادراك المصير البائس لو استمر الصمت، كان اعتصام المثقفين المتهمين بانشغالهم بهموم الثقافة والانفصال عن قضايا الناس هو الذى دفع الكثير إلى «المغامرة» بالاشتراك فى اعتصام اقتحم مبنى وزارة الثقافة والسيطرة عليه ومنع الوزير - الذى عينته السلطة - من دخوله، ولكن المثير أن كثيرا من المثقفين ثقة منهم فى ضرورة الخلاص من هذه الجماعة - تواتروا على القدوم إلى مقر الاعتصام.
كان «جسم» الاعتصام الرئيسى من نجوم الصف الثانى من المثقفين والفنانين وكانت رموز كبرى مثل بهاء طاهر وفتحية العسال وغيرهما تطمئن هؤلاء وتشجعهم، خاصة أن بعض الفنانين بل والمثقفين قد بدأوا فى «التواؤم» مع الوضع الجديد باعتباره وضعا دائما وأن «الإخوان» هم قوى «وطنية» منتخبة يجب التعامل معها.
فى ظل هذه الظروف والتوتر والالتباس وجماعات الشباب التى تجمع توقيعات برفض الحكومة الإخوانية، بدأت الدعوة إلى الثورة التى حددها الشباب سلفا يوم 30 يونيو، وبدأ الاعتصام الذى ظن الإخوان - بغباء وثقة - أن هدفه يتلخص فى عودة رئيسة الأوبرا ورئيس الهيئة إلى منصبهما باعتباره مطلبا فئويا.
بعد فترة من الاعتصام جاءنا طلب من «المتواصل» من طرف حكومة الإخوان، وقد حضرت هذا الاجتماع فى غرفة الأمن بالوزارة، وعرض علينا هذا «المبعوث» أن يعود من فصل إلى منصبه بشرط فض الاعتصام، وكان الأستاذ بهاء طاهر حاضرا، فنظر نحونا فوجد الرفض الصارم، فابتسم مخاطبا «المبعوث» بأن الموضوع قد تجاوز المناصب والأشخاص، وهنا أدركت الجماعة عبث المحاولة، فبدأت فى ممارسة العنف لدرجة إرسال أعداد كبيرة من أعضائها بقيادة شخصى يدعى «المغير» لمحاصرة الوزارة وإخراج المعتصمين وبدأوا فى قذف الحجارة على مقر الوزارة، واقتربوا من البوابات الخارجية، وقفت قوات أمن متواضعة على الحياد لمنع الاعتداء من أى طرف على الآخر، وتحول الحصار إلى هتاف وهتاف مضاد وكانت الهزيمة من نصيب جماعة الإخوان حيث أدركوا أن «الحكاية» أكبر من طاقتهم على إنهائها وانصرفوا وهم يسمعون صيحات السخرية «مع السلامة يا أبو عمة مايلة».
كانت ندوات الاعتصام اليومية مدرسة للثقافة والوطنية وتواترت الشخصيات السياسية الكبرى على الحضور للحديث عن مستقبل الوطن وعن أزمته.
كنت مسؤولا عن الإعاشة، ومن المفارقات الطريقة أننى لم أجد ارخص من محلات «التوحيد والنور» لشراء مراتب ومخدات للمعتصمين، وكان كبار «النجوم» أسخياء فى التمويل، وكانت حبات «البونبونى» تقذف على المعتصمين من عمارات الزمالك المطلة على الوزارة، ولمحت من بين المشجعين الفنان عزت أبوعوف مطالبا بالاستمرار والصمود.
كانت زيارة الاعتصام فخرا لكثير من المثقفين والفنانين وكان الامتناع يعتبر عارا وتقصيرا وجبنا، ولحسن الحظ كان عدد «الجبناء» قليلا جدا وكانوا يعتذرون فى السر لعدم «اطمئنانهم» لنجاح الثورة، ولكن الجميع «تقريبا» جاء فى التاسعة من صباح 30 يونيو وساروا بضع مئات الأمتار فى شوارع الزمالك، حتى ابتلعتنا جميعا الجماهير المتحمسة فى كل أنحاء مصر.
أمام مقر الوزارة أقيمت منصة صغيرة أدارها جيل جديد من شباب الفنانين وجاءت فرقة البالية والموسيقى والرقص الشعبى لتقدم عروضها فى الشارع الذى أصبح - مع الوزارة - مزارا وطنينا وثقافيا وفنيا، وتولى الناس حماية الاعتصام حتى بدأت الثورة، التى أنهت حكومة الظلام، ولم نفارق الوزارة حتى بدأت ملامح الوزارة الجديدة حيث ذهب الوزير الإخوانى إلى غير رجعة، ورغم أن تعيين السيدة إيناس عبدالدايم وزيرة للثقافة لم يتم لاعتراض السلفيين إلا أننا لم نفقد الأمل، وهذا موضوع آخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة