فى رواية «أمام العرش»، قال الكاتب الكبير نجيب محفوظ على لسان الملك خوفو: «الحكمة تعيش كالهرم وأكثر»
إن كانت آثار الثقافة المادية للمصريين القدماء، من معابد ومقابر وغيرها من آثار، لم تتوقف عن إبهار العالم، فإن أهم آثار ثقافتهم غير المادية والمتمثل فى الدين والفكر الأخلاقى جدير بأضعاف هذا الانبهار.
فالمطالع لتاريخ أديان العالم القديم مثل العراق القديم وفينيقيا واليونان القديم يلاحظ بسهولة شديدة أن العلاقة بين الإنسان والإله كانت نفعية بحتة، أشبه بعلاقة التابع لسيده الإقطاعى، فالإله لا يريد سوى الطاعة والخضوع والمعابد والقرابين، مقابل أن يطيل من عمر الإنسان ويبارك فى صحته وثروته وذريته.. وهو إله متقلب المزاج يمكن لأى سبب أن يسلط على البشر صواعقه أو طواعينه أو طوفانه فقط لأن ضجيجهم يزعجه أو لرغبته فى مزيد من الخضوع والتذلل.. وليس لتلك الآلهة من آلية للحساب بعد الموت ثم مكافأة الصالح ومعاقبة الفاسد، بل إن ما بعد الموت هو مصير يتساوى فيه الجميع بتحولهم لأرواح شبحية هائمة تائهة فى العالم السفلى، إلا من تصطفيهم الآلهة - أيضا لأسباب نفعية - فترسلهم آلهة بابل لأرض الخلود دلمون أو تكافئهم آلهة اليونان بالحياة الأبدية فى حقول الإليزيه.
اختلف الأمر فى مصر القديمة، فمن البداية كان الارتباط واضحا بين الدين والأخلاق، وأن علاقة الإنسان بإلهه تمر عبر علاقته بباقى المخلوقات من بشر وحيوان وطير وحتى الزرع والنهر.. وأن القرابين والتقدمات للآلهة لا تغنى عن العدل والتزام السلوك القويم، أو كما تقول الحكمة المصرية القديمة: «إن العدل عند الإله أعظم من قربان الرجل الظالم».
فرضت نشأة المجتمع المصرى القديم ذلك الفكر على المصريين القدماء، فقد تلفت المصرى القديم فوجد نفسه وقومه يتجمعون حول نهر واحد ومحاصر من الجانبين بصحراء قاسية تلهبها الحرارة وتجول فيها الضوارى، هنا أدرك ذلك المصرى حقيقة صارمة: إما أن نجد سبيلا لنتعايش معا، أو أن نهلك جميعا!
ولأن التعايش يتطلب تعاونا دائما، وتفاعلا إنسانيا على مختلف المستويات، فقد نشأت «المصلحة الجماعية» والتى من الطبيعى أن تتطلب تنظيما للمجتمع يضمن الاستقرار والوحدة والسلم المجتمعى..
من هنا عرف المصرى القديم فكرة «المسؤولية المجتمعية»، والتى بلغت فى الوجدان الجمعى للمصريين القدماء شأنا جعلها مرتبطة بمعتقداتهم الدينية.. فالطريق إلى الإله لا يمر بالمعبد والقربان فقط بل يمر عبر واجبات الإنسان والتزاماته تجاه نفسه وأسرته ومحيطه وكل من هم تحت رعايته أو فى متناول يد عونه ليس من البشر فحسب، بل من كل المخلوقات ومظاهر الطبيعة.. لأن مصائرهم جميعا مترابطة، وما يفعله هذا يؤثر فى حياة ذاك، فلا مجال هنا للتفكير الأنانى أو الانعزالى.
لم ينظر المصرى القديم لنفسه أنه «مركز الكون والمخلوق الأول المتصرف بغير حساب فى كل شىء»، بل أدرك أنه جزء من نظام كونى دقيق وأن عليه مسؤولية فى الحفاظ على توازن هذا النظام، وهنا يأتى دور «الماعت».
لو بحثت عن كلمة «ماعت» على أى من محركات البحث، لوجدت صورة لإلهة مصرية قديمة على هيئة امرأة تضع على رأسها ريشة..
يحاول البعض أن يضع تعريفا لماعت أنها «الحقيقة» أو «العدل» أو «النظام والاستقرار»، والحقيقة أنه من الصعب وجود تعريف جامع مانع مختصر فى كلمة واحدة للماعت.. فالماعت هى قيمة تتضمن الحق والعدل والصدق والانضباط والاستقرار والنظام والتوازن معا.. وعلى مختلف المستويات.. فعلى المستوى الكونى هى التى تضمن استقرار حركة الكون وظواهره وعلى رأسها رحلة الإله رع بمركب الشمس من الشرق إلى الغرب ثم انتصاره على الظلام وميلاده من جديد فى الصباح.. وعلى مستوى الدولة تمثل الماعت استقرارا وثبات نظام الحكم ومؤسساته وتحقيقها العدل والأمن للبلاد والرعايا تحت ظل الفرعون الذى يعد خادما للماعت.. وعلى مستوى الأسرة هى استقرار واطمئنان وأمان البيت وأهله تحت رعاية رب الأسرة وزوجته.. وعلى مستوى المجتمع هى استقرار المعاملات وتحقق الرضا والسلم الأهلى والعدل والتعايش الآمن والسلمى بين البشر.. وعلى مستوى الفرد هى تحقق التوازن بين رغباته وانفعالاته وشهواته من ناحية، وما يجب عليه تجاه نفسه والآخرين من تحلى بالحكمة والحق وضبط النفس والتحكم فى الرغبات من ناحية أخرى..
وكل فرد فى المجتمع مسؤول عن الحفاظ على الماعت حسب موقعه من المجتمع، فالملك يمثل الآلهة فى حفظ الدولة وحدودها وقوانينها ومؤسساتها وإقامة العدل والأمن بين الناس وحفظ استقرار النظام الحاكم.
وموظفو الدولة يعاونون الملك فى حفظ الماعت بانضباطهم وأدائهم مهامهم بأمانة.. والرعية تحفظ الماعت باحترام القوانين والنظام الحاكم وأداء حقوق الآلهة والمعابد، وقبلها مراعاة حقوق البشر بالتعامل بالحسنى والعدل والتزام الصدق وتقديم العون للمحتاج، وعدم الاعتداء على طير أو حيوان أو قطع شجر أو اقتلاع زرع بغير حق، وعدم تلويث مجرى النهر أو تعكير مياهه.. وعدم صم الأذنين عن الاستماع لكلمة الحق.
ورب الأسرة يحفظ الماعت باعتنائه بأهل بيته والعدل فى المعاملة بينهم وتقديم أفضل رعاية لهم وعدم التقصير فى تربية أبنائه على الفضائل.
وكل من هؤلاء لا يعتقد أنه بحماية الماعت يؤثر فى نفسه فحسب، بل يدرك جيدا أنه يمسك بسلوكه بجزء من النظام المجتمعى والكونى وأن تقصيره أو تهاونه فى مسؤوليته تلك قد يؤدى لاختلال هذا النظام حسب حجم مسؤوليته بحكم موقعه فى المجتمع.
ولهذا ففى مشهد «حساب المتوفَى» أمام محكمة الآخرة، يضع الإله ريشة الماعت فى كفة من الميزان، وفى الأخرى قلب المتوفَى ليتحدد ما إذا كان من أهل النعيم الأخروى أم ممن ستتقض عليهم «أميت/الملتهمة» وتفترس أرواحهم وتفنى وجودهم.
ولهذا أيضا عُرف المحافظون على الماعت بـ«الماعتيو» بعكس «الإسفتيو» وهم من يُنسبون لـ«إسفت» بمعنى الفوضى.. وهى تمثل النقيض الصارخ للماعت وما تدعو له من قيم.
والماعت والإسفت فى صراع دائم، حيث تسعى كل منهما لانتزاع السيطرة من الأخرى.. فعلى أساس سلوك المرء يتحدد فى أى جانب هو.
بهذا الشكل تُرجِمَت المسؤولية المجتمعية فى مصر القديمة إلى الماعت، بل لا أجدنى مبالغا إن قلت إن للماعت مفهوم أوسع من المسؤولية المجتمعية.. وهكذا عبّر أصحاب أول وأقدم دولة مستقرة موحدة على ذات أرضها فى تاريخ البشرية عن خوفهم من الفوضى وانهيار النظام وتفكك الوحدة وفقدان الاستقرار والدخول فى حالة الاقتتال الأهلى، وهو ما كانت تمثله مرحلة ما قبل توحيد مصر على يد الملك مينا، فجعلوا الماعت وقيمها بمثابة الرابط القوى لمجتمعهم.. وجعلوا الإسفت نصب أعينهم مصيرا مظلما لهم إن لم يتحملوا مسؤولية الماعت..
وللحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة