حازم حسين

سقوط واشنطن وصعود بيبى.. حقائق صادمة يكشف عنها مشهد نتنياهو فى الكونجرس

الأحد، 28 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

جولةُ علاقاتٍ عامّة أنجزها الكونجرس الأمريكى لصالح بنيامين نتنياهو. لا يهمُّ أىُّ حديثٍ عن المًقاطعين أو منسوب الاعتراض أمام الكابيتول؛ فالحقيقة أنَّ القاتل وقفَ على المنصّة الأهمّ فى الولايات المتحدة، وحظى بالتصفيق وقوفًا لنحو ثمانين مرَّة فى خمسين دقيقة فقط، وكلُّ ما قاله لا يخرجُ عن حقيقة أنَّ المشروع الصهيونى الجارح يمضى فى طريقه تحت سحابةٍ أمريكية كثيفة، قد تطرأُ عليها بعضُ الثقوب بين وقتٍ وآخر، فيبدو للناظر من بعيد أنها تُمرِّر قليلاً من ضوء الشمس وحرارتها؛ إنما فى الأخير لا تتغيَّر المًعادلة. بأثر السرديَّة اليهودية وإسنادها الإنجيلى المسيحانى تكتمل دائرة النار، وبقوّة الغطرسة الإمبراطورية وهيمنتها على النظام الدولى، يُمنَعُ المُتأفِّفون ضَميريًّا أمام تلك الحالة العُنفيّة المُتبجِّحة من أن يُطفئوا حرائقها، ويُستَهلَك الوقتُ دون إنجازٍ حقيقى يستعيدُ العدالة الضائعة.


الوقفةُ الرابعة لرئيس الحكومة العبرية لا تختلفُ عن كلِّ سوابقها. كان النصف فيها بالتراضى بين أجنحة الدولة، ونصفُها الآخر على غير هوى البيت الأبيض، والمُحصِّلة واحدة فى الحالين. فى خطابه الأوَّل عام 1996 تحدَّث 40 دقيقة مُقابل 19 مرّة فقط من التصفيق، وحضر رئيس مجلس النواب فى الخلفية بجانب نائب الرئيس بحُكم موقعه على رأس مجلس الشيوخ، وفى 2011 تضاعف الرضا مع 46 دقيقة و59 تصفيقًا. النزاعُ الأوَّل كان فى 2015 بالحضور رغمًا عن إرادة أوباما، فخطب 42 دقيقة ونال 42 مرَّة من التصفيق، بينما غاب نائبُ الرئيس وقتها، جو بايدن، عن المنصّة، والأخيرة تضاعفَ التصفيق عمَّا قبلها، ولم تحضُر النائبةُ كامالا هاريس. وفى جَردة الحساب فإنَّ ما يعودُ به نتنياهو من واشنطن لم يتغيَّر إطلاقًا؛ أكان ذاهبًا برضا الإدارة أو مُتحدّيًا لها، فالمسألةُ لا تتجاوز الشكليَّات المًتّصلة بتوازنات القُوى التشريعية، وطبيعة الأغلبية، ومدى الوفاق بين الرئاسة والكابيتول، أمَّا الصورة النهائية فإنها محكومةٌ بحقيقةٍ لا تقبلُ النقاش، وخُلاصتها أنَّ الجميع مُلتزمون تجاه إسرائيل، بغضّ النظر عن تركيبة السُّلطة فى تل أبيب، أو جرائمها الحاضرة، أو الكُلفة الإنسانية والأخلاقية والسياسية لسَير الدولة الأعظم معصوبةَ العينين خلف حليفٍ مُختلّ.
دُعِىَ زعيمُ الليكود من الجانب الجمهورى، وكان اعتراضُ بايدن وفريقه على أنَّ الحضور فى هذا التوقيت، وبالمًلابسات الجارية فى فلسطين، إنما يتركُ أثرًا ثقيلاً على السباق الرئاسى المُحتدم، ويصبُّ فى صالح المُنافس دونالد ترامب.

والتحفُّظ هنا من جهة تحميل الإدارة القائمةِ مسؤوليةَ الرعاية والاحتضان؛ بما تُلقيه من أعباء على الديمقراطيين، بينما يتكفَّل الكونجرس بتقديم الحزب المناوئ داعمًا لتل أبيب، وثابتًا على موقفه المُلتزم تجاهها، ما يعنى تعميق الشروخ بين التقدُّميين الرافضين للحرب، وإفادة المُحافظين من خزّان الدائرة المسيحانيّة وجماعات الضغط. ومن هنا؛ كانت محاولة ترشيد الآثار السلبية للزيارة، من خلال ورقة التهدئة التى اقترحها الرئيس أواخر مايو، وسعى لاقتناص توقيع نتنياهو عليها قبل حلوله فى واشنطن، ليبدو الأمرُ على صورة تسويق الفاعلية، بدلاً من حال العجز الراهنة. لكنَّ الليكودى العجوز سار فى اتجاهٍ آخر، ونجح فى تقطيع الوقت بين مُقترح الصفقة ووقفة الكونجرس، فما قدَّم شيئًا ملموسًا للرئيس الذى يُفاخر دومًا بصهيونيته، أو لنائبته التى حلَّت بدلاً منه على بطاقة الرئاسة، بينما حطَّت طائرتُه فى العاصمة ليحصُدَ كلَّ شىءٍ أراده دون مقابل. لقد صار طرفًا أصيلاً فى الانتخابات، وكان يعرفُ ذلك، وتحرَّك بقصدٍ واضح لأن يخصمَ من رصيد داعميه منذ اندلاع الحرب، ويُضيفَ لأرصدة لاعبه المًفضَّل، الواقف على خطِّ الملعب فى انتظار موعد التبديل.


كانت أقوى رسائل ترامب فى مُناظرته الأولى مع بايدن، أنه لو عاد للسلطة فسيقول لإسرائيل أكملوا المهمة. بمعنى القضاء على حماس وإعادة هندسة قطاع غزَّة وفق التصوُّر المُناسب لدولة الاحتلال. وعمليًّا فإنَّ الرئيس الديمقراطى لم يفعل عكسَ هذا؛ لكنه قال ما يحملُ معنى الرغبة فى وَقف الحرب أو تقليص حدَّتها، فقفز الصهاينةُ على خدماته المادية العظيمة وتمسَّكوا بالأقوال الرمادية. إنهم حَصَّلوا كلَّ ما يُمكن الفوز به من الإدارة قبل أن تتعاظم شروخُها الداخلية، وتتآكل أجنحةُ الحزب فى صراعاتٍ بينيّة لن تُفضى لشىء، والإحلالُ اليوم يُنقذ الديمقراطيين من مُعضلتهم الأخلاقية، ويُجدِّد الحاضنةَ بالفوران الجمهورى الذى يبدأ عدَّاد المًؤازرة من الصفر، بحماسةٍ أكبر، وذاكرةٍ أكثر امتلاءً بالخدمات الجليلة، كما حدث فى نقل السفارة للقدس، أو إطلاق حركة الاستيطان، وإبرام الاتفاقات الإبراهيمية والاعتراف بضَمّ الجولان، وفى نُسختها الجديدة قد تُعيد الحديثَ عن صفقة القرن، وعن ضَمِّ الضفَّة الغربية، وبالتأكيد ستسعى لاستكمال مسيرة التطبيع. وهنا لا قيمةَ لغياب التقدُّميين مثل السيناتور بيرنى ساندرز، بل سيكون التوقُّف أمام عدم حضور هاريس، النائبة الساعية لوراثة البيت الأبيض، حتى لو شاركها فى الغياب جيمس ديفيد فانس، نائب ترامب وزميله المُقترَح على البطاقة الرئاسية.


قدَّمت إدارة بايدن كلَّ ما يُمكنها لتلّ أبيب، لكنها لم تُقدِّم شيئًا يُذكَر للفلسطينيين والإنسانية، أو لذوى الضمائر الحيَّة من الأمريكيين أنفسهم. ولعلَّ كامالا هاريس تُحاول الهروبَ من تلك المحنة بغيابها عن جلسة الكونجرس المُشتركة، صحيحٌ أنها لا تختلفُ فى مواقفها تجاه إسرائيل عن بايدن، وإن بقيت على مقعده فلن تُصوِّب الأوضاعَ الخاطئة أو تُعيد ترسيمَ حدود الدعم؛ لكنها تُناور فى المساحة الفاصلة عن موعد التصويت، خصوصًا أنَّ حاضنتَها الأساسية تقعُ فى نطاق الأقلِّيات والمًلوَّنين، وأغلبهم قد لا يكونون مُرتاحين للّوثَة الأمريكية الحالية فى خدمة الجنون الصهيونى. لكنَّ الحليف الصغير لا يقنَعُ بغير الدعم الكامل، والتوقيع على بياض، ويعتبرُ ألاعيبَ السياسة ممَّا يُفَسَّر لصالح التراخى. هكذا تناولت الصحافةُ الإسرائيلية مسألةَ غياب كامالا عن جلسة الكونجرس، واعتبرت أنها أرادت عَمدًا ألَّا تكون بين مُستقبِلى نتنياهو والمًحتفين بكلمته، وأنها تعلَّلَت بالتزامٍ مُبرمَج مُسبَقًا وليس طارئًا، وكان بإمكانها تنسيقُ المواعيد لو كانت لديها نِيّةٌ صادقةٌ فعلاً لتأكيد الروابط مع تل أبيب وحكومتها. والواقع أنها استعاضت عن الجلسة بلقاءٍ خاص، واعتبرت ذلك كافيًا لتمرير قناعاتها بشكلٍ مُباشر لمن يهمّه الأمر، دون التضرُّر من آثار المشهد العلنىّ؛ لكن ترامب يخوضُ المُنازَلة على الحلبة العبرية بمنطقٍ آخر، ونائبه الغائب عن الجلسة لا يتوقَّف عن دعم الحُلفاء، وله رسائلُ واضحةٌ وصريحة فى هذا السياق. والكُتلة الناخبة التى تتحرَّك من داخل إسرائيل، أو على موجتها، كبيرةٌ بما يكفى للعب فى توازنات السباق. فكأنَّ الديمقراطيين خسروا نقطةً؛ فيما ترشَّح للعامّة من إدارتهم لمشهد الكونجرس.


المأزقُ كلُّه نابعٌ من سلوك نتنياهو مع الحرب. لقد مزجَ الشخصىَّ بالعام؛ حتى صارت سياستُه مع الفلسطينيين وغيرهم مُلحقةً على أهدافه الخاصة، فيما يخصُّ تعديلَ التوازنات الداخلية، والبحثَ عن صورةِ انتصارٍ صالحةٍ للتسويق فى بيئته، والهروب من استحقاقات المُساءلة، سواء عن إخفاقات 7 أكتوبر أو ما سبقتها من قضايا جنائيّة مُعلَّقة. والحال أنّه يلعبُ جولتَه الانفراديَّة مع الجميع وبالجميع، فالحُلفاء التوراتيِّون أداةٌ لترويض المُعارضة من اليمين والوسط، والعكس بالعكس، وكلاهما أداةٌ للضغط على الأمريكيِّين والعرب، والمُناكفة المُتصاعِدة مع المحور الشيعىِّ وسيلتُه لابتزاز كلِّ الأطراف معًا، وكلُّهم فى النهاية إمَّا أن يلعبوا لصالحه مُباشرةً، أو أن يتناحروا فيما بينهم ليظلَّ هو الفائز الوحيد. والمَخرَجُ من النفق لا يتيسَّر مع بقائه، ولا حتى برحيله طالما بقيت الأُصوليَّةُ حاكمةً فى الجبهتين الأساسيِّتين. وما يزيدُ الأمرَ فداحةً أنَّ الجهات كلَّها مفتوحةٌ على حالةٍ من السيولة الظاهرة، ويُعاد بناءُ السلطة فى نواحيها وفق مُرتكزاتٍ جديدة، لا يبدو حتى اللحظة إلى أيّة جهةٍ تسير: الولايات المُتّحدة فى استقطابٍ عميق، وإيران لم تُرسِّم صلاحيات رئيسها الجديد وحدودَ برنامجه، واتّفاقُ المُصالحة الفلسطينى فى بكين ما زال عجينةً طريّةً لا يُعرَفُ الوجه الذى ستتخمَّرُ وتنضج عليه، بينما تلُّ أبيب تحصَّنت جُزئيًّا عند حالتها الراهنة حتى الخريف على الأقل.


دخلَ الكنيست عُطلتَه الصيفية الطويلة، ولثلاثة أشهرٍ مُقبلة سيكون لنتنياهو مُنفردًا أن يُدير الدولة دون رقابة ولو شكلانيّة، وأن يُمرِّر الاتفاقات أو يُعطّلها. ومع حقيقة أنّه كان العقبةَ الدائمة أمام كلِّ التسويات المًقترحَة؛ فالأرجحُ أنه لن يمضى نحو التهدئة قبل أن تتّضح معالمُ المسار الفلسطينى الجديد، وقبل معرفة شريكه المُقبل فى واشنطن. وفق هذا المنطق أُفشِلَت كلُّ الجولات السابقة، وقد لا يكونُ حَظّ الجولةِ المُنتظَرة فى روما اليوم مُختلفًا؛ إذ يلتقى مسؤولون من مصر وقطر والولايات المتحدة مع الوفد الأمنى الإسرائيلى، وثمّة مُشتركاتٌ واضحة بينهم جميعًا، كما كان فى القاهرة والدوحة وباريس من قبل؛ لكنَّ رئيس الحكومة يُقوِّض سُلطةَ مبعوثيه ويحتفظُ بحقِّ التوقيع الأخير. والنقاطُ العالقة حتى الآن ليست مُستحيلةَ الحسم، سواء ما يخصُّ ترتيبات عودة النازحين من رفح وخان يونس إلى الشمال، أو طبيعة صفقة التبادُل وفاصل التفاوض غير المُباشر بين المرحلتين الأُولى والثانية؛ لا سيما بعدما رجعت «حماس» عن شَرط الانسحاب والوَقف الكامل للنار فى باكورة الصفقة. لكنَّ ما يُريده نتنياهو أن يستخلصَ عددًا من الأسرى لتنويم الشارع، ويظلّ قادرًا على الحرب مع الاحتفاظ بهيمنةٍ عسكرية، تتبعُها إدارةٌ إقليمية ودوليّة مدعومةٌ بعناصر محليّة من خارج السلطة والفصائل، وهو ما ترفضه رام الله، ولا يُقرّه الوسطاءُ والضامنون العرب.


كانت خياراتُ الإدارة الصهيونية محدودةً فى بادئ الحرب، وأثرُ الصدمة حاكمًا لسلوكها، فى العُنف والسياسة على السواء؛ لهذا أبرَمَتْ هُدنتَها الأُولى أواخر نوفمبر، وكان بالإمكان تجديدُها لولا تشدُّد القسَّاميين ورُعاتُهم من محور المُمانعة. أمَّا الشهور العشرة من القتال غير المُتكافئ، ومع انكشاف دعاية «وحدة الساحات» وهشاشة الجانب المُضادّ؛ فقد عزَّزت جنونَ نتنياهو، وأتاحت له باقةً من الخيارات البديلة. لقد استثمرَ فى الفوضى وتناميها الخطير مثلما فعل مع «حماس» من قبل، وبقدر ما منحته الحركةُ مُبرِّرات التجبُّر والهروب من الالتزامات بدعوى غياب الشريك، فإنَّ حزبَ الله والحوثيين وميليشيات الحشد وغيرهم أعادوا تعويمَه فى بيئته، وعدَّلوا صُورتَه جُزئيًّا أمام الحُلفاء والداعمين، حتى تيسَّر له أن يقفَ أمام الكونجرس بمجلسيه زاعمًا صورةَ الضحيّة، ومُتجاهلاً تمامًا أىَّ حديثٍ عن الهُدنة والتسوية وحلِّ الدولتين، رغم أنها مُفرداتٌ حاضرةٌ بقوَّة فى الخطاب الرسمى الأمريكى، على الأقل من زاوية الرئيس الواقف على رأس السلطة، ونائبته التى تُنافس على أربع سنواتٍ جديدة فى البيت الأبيض.


قد نختلفُ أو نتّفق فى «الطوفان» وفاعليّته؛ فيرى فريقٌ أنه نشَّطَ الجبهةَ الخاملة وأعاد القضيّةَ لواجهة الصورة، ويردُّ آخرون بأنه أضرَّ فلسطين على المدى البعيد، أقلّه من ناحية كُلفة الدم والمال ومُستقبل الضفَّة والقطاع؛ لكن ما لا مِراءَ فيه أنَّ دخولَ محور الميليشيَّات على خطِّ الحرب ما أضرَّ العدوَّ ولا أفادَ الصديق؛ بل لعلَّه قدَّم هديّةً مجّانيّةً لنتنياهو، وصَرَفَ النظرَ أحيانًا عن مُعاناة الغزِّيين ومواجعهم. والوعى بالعقلية الصهيونية قد يُجنِّبُ تكرارَ الأخطاء فى اللعب معهم على الدعاية؛ إذ لم تكُن ضربةُ الاحتلال للقُنصليّة الإيرانية فى دمشق عملاً عفويًّاـ أو تجربةً للرقص الاستعراضى على تخوم الجبهات الساخنة؛ إنما تلطَّى فيها نتنياهو وراء مُناوشات الأطراف ليتحرَّش بالرأس، ويفتح الساحات على بعضها مُستفيدًا من طاقة الوَصْم وآمنًا من أثر الاحتشاد، فابتلعَ قادةُ المحور الطُّعْمَ وأطلقوا حفلَ «الصواريخ والمُسيَّرات» من الأراضى الإيرانيّة رأسًا، ما مكَّنَ القاتلَ المأزومَ فى تل أبيب من حزمةِ مكاسب مُهمَّة دفعةً واحدة: دخل الحُلفاء بجانبه مُباشرةً، وانصرفت الأنظارُ عن محنة غزّة، ونَشَطَت «الهاسبرا» الصهيونية لتمنح المسألةَ الفلسطينية بُعدًا إقليميًّا مَعقودًا فى ذيول الميليشيات الشيعية، فكأنه أراد تلوين القضية العادلة بألوانٍ طائفية، وتلاقت معه الفصائلُ وداعموها للأسف.


يُؤخَذُ القرارُ فى واشنطن داخل الكابيتول لا خارجه، ما يعنى أنه لا قيمةَ عمليًّا لتظاهُرات الساحة، كما لا أثرَ للنواب المُقاطعين والغائبين عن الجلسة. قال نتنياهو كلامًا فارغًا لعشرات الدقائق، وتحصَّل على مرَّتين تقريبًا من التصفيق الهادر والاحتفاء المُبالَغ فيه عن كلِّ دقيقة. كثيرون من المُشرِّعين الأمريكيين يُعبِّرون عن ميولٍ عقائديَّة راسخة، وبعضُهم يُغازلون القاعدةَ اليهودية والمسيحانيّة العريضة قبل أسابيع من الانتخابات؛ إنما النتيجةُ أنَّ الرجلَ الذى أتى سابحًا فى نهر من الدماء، قد استُقبِلَ استقبالَ الفاتحين، وجدَّد سرديَّتَه الذابلة، وأعاد تسويقَ صورته التى يُحبّ كآخر «ملوك التوراة» وحُماة العُهود المُقدَّسة. ومع أجندةِ اللقاءات المُلحَقة بالرئيس الراحل بايدن، أو الرئيس الجديد سواء كان ترامب أو كامالا، فإنه يُرسِّخ حضورَه فى مركزى القرار الأمريكى، فضلاً على أنَّ المُؤسَّسات الصلبة إلى جانبه بالضرورة، وطوال الوقت.. ربما يكشفُ المشهدُ عن سقوطٍ أخلاقىٍّ مُدَوٍّ للولايات المتحدة؛ لكنه يحملُ بين دلالاته إشارةً مُزعجةً عن تمكين أجندة نتنياهو، وهذا ما يخصُّ فلسطين ويُعمِّق نكبتَها، ويتوجَّب أن يكون محلَّ اهتمامٍ ونظرٍ من قُواها المُنقَسِمة على نفسها حتى الآن.


إنْ حلَّت «كامالا» فى المكتب البيضاوى فلن تنحرف شِبرًا عن مسار بايدن، وإن صعد «ترامب» فإنها الانتكاسةُ التى تُعمِّق المَقتَلَة ولا تصرفُ مُقابلاً عنها فى السياسة. ليتحمَّسَ المُتحمِّسون لحماس كيفما شاءوا؛ لكنّ «الطوفان» كان خطأ استراتيجيًّا، ولو بدا فى التكتيك أنه أنعشَ الجُثّة الموضوعةَ على جهاز التنفُّس وأظهر عمليَّاتها الحيويّة. والحادثُ اليوم أنَّ الحركةَ نادمةٌ؛ ولو أنكرت، وتتلمَّسُ التهدئةَ من كلِّ السُّبل المُمكنة، حتى مع تنازُلاتٍ كانت ترفضها سابقًا، أو بانحرافٍ نسبىٍّ عن إملاءات المحور الشيعىِّ ونزواته. والحقّ أنَّ جنون السنوار فى أنفاقه، يتضاءل كثيرًا أمام جنون نتنياهو فى الكابينت؛ والفارق أنَّ لدى الأخير امبراطوريّةً هائجةً تدعمُه بالبارود وتغسلُ يديه من رائحته، أمَّا الأوَّلُ فلديه من يُطعمونه بالخُطَب والشعارات، وإذا نزلت به النوازلُ غابوا أو تَخَفّوا فى عنتريَّاتهم البالية. للأسف يربحُ «بيبى» مُجدَّدًا، لا لأنّه يُمثِّل قضيّة عادلةً؛ بل لأنّ أصحاب القضية العادلة ليسوا عادلين فى سُلوكهم، وأوّله أن تكون فلسطين أوّلاً وأخيرًا، ثم أنْ يُعرَف اختلالُ العالم فلا يُراهَنُ عليه باستخفافٍ وغباء.. إنها الحقائق القاسية والظالمة وقُل فيها ما شئت؛ لكنها قوانين الواقع؛ وإذا لم تكن قادرًا على كسرها، فلا بديل عن اللعب فى نطاقها الآمن.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة