تخيل أن زحام ميدان العتبة وعشوائيته الملاصقين للمسرح - الطليعة - يشهدان مغني ومغنية يقفان بملابس السهرة على باب المسرح يغنيان مقطعًا من أوبرا كارمن لجورج بيزيه. وفي خلفيتهما الشارع المكدس بحوانيت صغيرة تعلق داخلها الملابس والأحذية ولعب الأطفال.
ينظر إليهما العابرون نظرات السخرية الممزوجة بالاستنكار، ثم يأخذهم الفضول لا ليروا ويسمعوا فقط ولكن ليفهموا لماذا يقف في الجهة المقابلة ( داخل المسرح ) جمهور يشبههم يشاهدون ويستمعون ونظراتهم معلقة بهم هم لا بالمطرب والمطربة. هنا سيقفز السؤال إلى أذهانهم : لماذا؟ من هؤلاء ؟ وما هذا الجنون الذي يدفع أولئك المجانين إلى فعل مثل هذه المسخرة؟.
تلك هي بداية عرض " أوبرا العتبة " بصياغة وأخراج هاني عفيفي الذي كشف تاريخه المسرحي القصير نوعا ما عن مغامر لا يلجأ إلى المعتاد من الأفكار.
يصطحبنا هاني بعد هذه التقدمة إلى داخل الصالة التقليدية ليذكرنا مرة أخرى عبر دقات ثلاث أننا في مسرح، خشبة وصالة وحاجز وهمي. بل يمنحنا دقائقاً نستوعب فيها تشكيلاً على الخشبة - أبدعه عمر غايات- قوامه الأساسي هو تجريد لما مررنا به في الخارج. عروق خشبية غير منمقة تصنع بتقاطعاتها ما يشبه فرشات الباعة. التشكيل يؤكد على انقسام المسرح إلى جزئين رئيسيين. على اليمين ما يشبه صومعة مثقف ( قام بدوره محمد عبد الفتاح ) ينهي لوحة تشكيلية تحيطه أرفف كتب ومذياع و أريكة يستخدمها أحيانا في القراءة بصوت مسموع لبعض نصوص من كتبه الكثيرة المتنوعة (فن، فلسفة، علوم، شعر، مسرح ... وغيرها). في المقابل، على اليسار، صومعة أخرى، هي بيت واحدة من المستهلكات (قامت بدورها دعاء حمزة) محاطة هي الأخرى بما يكبل حركتها مع الإختلاف في النوعية (صناديق زيت وأرز وصابون ولحوم مجمدة).
مع تطور أحداث العرض سنكتشف أن هذين المنفصلين لا يزعجهما بل لا يلفت نظرهما على الإطلاق سواء ما يدور على الخشبة فيما بين الصومعتين، أوما يدور في الصالة التي سيستخدمها المخرج كمعادل للخارج. فهاهي جحافل من بشر يهجمون عليك ببضاعاتهم الرخيصة وبأصواتهم الحادة التي يزيدها إزعاجاً تلك المكبرات التي يحملها كل منهم يصرخون عبرها في أذنيك ( اشتري يا باشا ، اشتري يابيه)، بينما هما (الرجل والمرأة) لا يلفت نظرهما شيء مما يدور، فكل منهما في غيه يهمع. كل منهما منفصل تماما عما تراه أنت وتعيشه معهما.
هنا تحديدا ستكتمل الخيوط الأولى للوحة هاني عفيفي. أو لنقل سيكتمل الإتفاق غير المعلن بينك كمتلق وبينه كمرسل. فأنت الأن تجلس أمام مرآة تعكس مشهداً تراه كلما نزلت إلى الشارع وخاصة تلك البؤرة التي اسمها ميدان العتبة. أنت ترى الأن ما أعتد عليه ولكن عبر مسافة تسمح لك بالتأمل ومن ثم السؤال ( كيف نعيش هذه الحياة ؟ ) ومن بعده ( ما السبب؟ وما العمل؟ ).
لن يكتفي هاني عفيفي بهذه المشاهد، لكنه سيحيطها بأخريات سواء عبر التجسيد الحي بممثلين على خشبة المسرح وفي الصالة أو عبر شاشتين معلقتين على يمين ويسار الخشبة ،يكشف بها عمق النشاز الذي نحيا : توك توك، فيس بوك، أخبار عادية وتافهة تتحول بفعل السوشيال ميديا إلى عناوين براقة تأخذك لأيام وربما لشهور من المتابعة.
فكرة المرآة ، تلك التي تواجهك بحقائق تعرفها لكنها تصدمك حين تتأملها، هي فكرة العرض الأساسية. فالعرض لا يستهدف أن يحكي لك حدوتة عن هذا العالم المرتبك، فأنت تعرفه تماما كما يعرفه أصحاب العرض. لكنه يستهدف فقط مواجهتك ببثور الواقع الذي تتكيف معه وتحاول الهروب منه على طريقة ذلك المثقف القابع هناك يقرأ عن الحياة وكيفية تغييرها. أو على طريقة تلك المرأة المتحصنة بخزينها المتكدس. لذلك لن تجد في العرض حكاية ما تبدأ وتتطور شخصياتها. بل سترى أنماطا يذكرونك بنفسك وبأخرين يمرون بك يوميا مروراً عابراً مزعجاً. لكن العرض أيضاً سيواجهك بحقيقة أن تأففك من هؤلاء المهمشين الذين قد تصفهم بالجراد أو الهاموش المزعج أو..أو.. أو..وربما تتمنى أن يقضى عليهم قضاء باتاً، هو تأفف العاجز أو الجاهل. سيذكرك العرض بأن هؤلاء بشر مثلهم مثلك، مجبرون لا أبطال. فهذا يسعى للحصول على قروش قليلة يتمم بها علاج صغيرته، وتلك تضطر للجلوس أمام فرشة الأحذية بدلاً عن أب غيبه الموت فتكتشف أن ثمن إيجار هذه الرقعة الصغيرة أكبر من قدرتها. والأفدح أنها لا تعرف، كما لا تعرف أنت، من يمتلك هذه الرقعة ويتحصل بالتالي على ثمن إيجارها، لكنها مجبرة على الدفع لتستمر الحياة التي هي ليست بحياة. وغيرها الكثير من المآسي التي لم تكن تعلم عنها شيئا أو تعلم لكنك تتجاهلها.
أجمل ما في هذا العرض أنه لا يدين أولئك الذين زحفوا إلى الميادين والأرصفة مجبرين، بل يدين أولئك الذين تركوهم لذلك المصير يتلقون وحدهم اللعنات، ويدين من يشبهوننا حين لا نرى الحل إلا في اللعنات والإنزواء عن هذه "الحثالات" .
في الأخير ستتكدس الحكايات وستتكدس معها أجولة وصناديق البضائع لتطال هذين المتحصنين بعزلتهما فلا صناديق الطعام فلحت في أن تكون قاربا للنجاة ولا الموسيقى والرسم والأشعار فلحت في منع الطوفان من الوصول إلى ذروته، بل وتذهب أدراج الرياح. وكأن العرض بنهايته المعبرة، حيث تسجن المرأة خلف جدار صناديقها ويسجن المثقف خلف أجولة البضائع، يصرخ صرخة معادة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ولم يسمعها من يفترض أن يسمعوا ويواجهوا: "انتبهوا أيها السادة.. انتبه أيها السيد، انتبهي أيتها السيدة، فماعادت محاولاتنا الفردية في الاختباء تجدي، فالطوفان عظيم "..و " رعب أكبر من هذا سوف يجيء".
لهذا كله وغيره الكثير من التفاصيل وصفنا عرض هاني عفيفي بأنه ( خارج الصندوق ) ونقصد صنوق الأفكار التقليدية سواء على مستوى الشكل أو على مستوى الطرح الفكري. وهو ما لا ينفي أبدا بضعة اختلافات تندرج تحت عنوان وجهة النظر، سواء على مستوى الأداء أو على مستوى الحفر بعمق أكثر في حياة أولئك المهمشين. لكن يبقى أن المحاولة في حد ذاتها هي مغامرة تستحق التحية. وربما ينتبه إلى صرختها من يفترض أن ينتبه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة