فى ظل التطور الكبير الحادث فى التغيير القيمى داخل المجتمعات العربية وما فرضته تأثيرات العولمة ثقافيا وقيميا وسلوكيا على المواطن حاليا وما أفرزته تكنولوجيا الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعى من سيطرة مضامين تخلو من القيم المتعارف عليها فى عاداتنا الأصيلة.
تتزايد الشكوى من انهيار مستوى الأخلاق وتدنيها فى المجتمع ويعانى المجتمع من عدم وجود التزام واضح ومحدد للقيم والمعايير الأخلاقية مما يمس التماسك المجتمعى واستقرار الوطن كله، حيث إن قضية الأخلاق لم تعد كمالِيَّةً ولا ترفيهيةً بل إنها عين الحاجة، والالتزام بها دواء ضرورى والدعوة إلى التمسك بها يحتاج أن يكون مشروعا قوميا فى الوقت الحالي.
أمام ما نشهده من انعدام قيمة الإخلاق وانتشار الشبهات والتربية السيئة والسلوكيات المشينة والأفعال المخلة والقيم المتسفلة الهابطة.
فقد تلونت أخلاقنا فى السنين القليلة الماضيةِ بألوانٍ بعيدةٍ عن القيم والأخلاقيات وانتشر الطمع والجشع وفى نفس المشهد تموت القيم فى توقير الكبير وأهل العلم والرفق بالضعفاء واحترام المواعيد وعدم نقض العهود وأمانة الكلمة وحسن المعاملة للجيران والأرحام والأصهار ورعاية أهل الحاجات وتقديم الكفاءات.
ولا يوجد طريقة نحو غرس وتعليم وتفعيل الأخلاق فى حياتنا وسلوكياتنا أقوى من تدريسها فى كافة المراحل التعليمية وفى مختلف المجالات الانسانية منها والعلمية والتطبيقية وغيرها حيث يحتاج المجتمع الآن إلى تدريس الأخلاق ليس فقط فى المرحلة الابتدائية ولكن يمتد ذلك إلى كافة المراحل التعليمية وتفعيل قوة مقررات الأخلاق فى العملية التعليمية ليصلح متطلبا إجباريا وشرط أساسى للتخرج وليس فقط من المقررات الاختيارية " الكمالية ".
وتزداد أهمية تدريس الأخلاق تحت وطأة هذا الواقع فى غياب أمانة الأخلاق فى إتقان العمل مع استشراء ظاهرة الغش فى الامتحانات والغش فى الأدوية وفى الخامات الصناعية وغيرها من الانماط السلوكية القبيحة التى تعكس تدنى مستوى الوعى بالأخلاق.
إن تدريس الأخلاق قد أصبح فرض عين على أهل الأخلاق والعلم وأهل المسئولية من رواد التنوير الحقيقى وحاجتنا إلى تدريس الأخلاق لا تقل قيمةً عن خطط الإصلاح الاقتصادى والتخطيط الأمنى وحفظ الحدود وحراستها وخطط الأمن الغذائى، ويجب أن يجعل المخلصون لهذا الوطن اهتمامهم الأول وبسرعة تدشين مشروعٍ قومى لتدريس وتنمية وتعليم الأخلاق والحفاظ عليها بل وتعريف الناس بها حتى لا يمارسوها على جهلٍ بها.
وفى مصر تجربة غير مكتملة فى ذلك الصدد حيث قد اهتمت مصر فى وقت سابق وبناء على توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى، بتدريس كتاب "القيم واحترام الآخر" لطلاب الصف الثالث الابتدائى، على أن يتمّ إعداد كتاب للمادة نفسها للصفوف الأولى والثانية الابتدائية، ولكن لم يظهر للمجتمع اهتمامًا إعلاميا بهذا الامر ولم يتم قياس نجاح التجربة وتوضيح خطواتها للشعب المصرى بالأهمية اللازمة باعتبارها أولوية متقدمة من اهتمامات المجتمع للحفاظ على تماسكه وأمنه ما جعلها تجربة غير مفعلة وغير منجزة لرسالتها النبيلة كما دعت إليها القيادة السياسية المصرية.
وهو الأمر الذى يدعونا إلى إعادة التفكير فى كيفية تدريس مادة الأخلاق وطرائق شرحها حيث لا يجوز شرح تلك المادة بشكل نظرى للطلاب ولابد من ربط المعلومة بالطرق العملية مع النظرية.
وكذلك يجب تحت مظلة هذا المشروع القومى ضرورة تعاون الاسرة والمؤسسات الاجتماعية المختلفة فى تدريس مادة القيم والأخلاق، حيث إن المتلقى لعلم الاخلاقيات فى المؤسسات التعليمية والتربوية بحاجة دائمة لرؤية محتوى مادة القيم والأخلاق فى طريقة تعامل المجتمع بها.
إن تدريس الأخلاقيات هو عملية تطوير المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ القرارات الأخلاقية والتصرف بمسؤولية فى ظروف مختلفة. والأخلاق ليست مجرد جزء من التعاليم الدينية أو فرع من فروع الفلسفة، بل هى ممارسة مهمة فى الحياة اليومية. فهى مجموعة من المبادئ والقيم التى تنظم سلوك الإنسان فى المجتمع وهى ليست مجرد مجموعة من القواعد التى يجب الالتزام بها، بل هى أيضاً أسلوب حياة يعتمد على الصدق والأمانة والمسؤولية والاحترام للآخرين". ولذلك، فإن تدريس الأخلاقيات لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يشمل أيضا إثارة المناقشات حول المشكلات الأخلاقية فى العالم كما أن تدريس الأخلاق يساعد الطلاب على الالتزام بالقيم الأخلاقية وفوائد تدريس الأخلاق كثيرة، منها: تطوير مهارات التفكير النقدى والتحليلي: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدى والتحليلى لديهم، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات أخلاقية مستنيرة وتشجيع الاحترام والتنوع ويساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير فهمهم للقيم الأخلاقية المختلفة، مما يساعدهم على احترام وقبول الآخرين من خلفيات وأفكار مختلفة.
كما يساعد تدريس الأخلاقيات على تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، مما يساعد على العمل نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً.
و اتخاذ قرارات بشأن الصدق أو النزاهة أو الأخلاق فى مكان العمل.
ويساعد تعليم الاخلاقيات المواطنين على أن يصبحوا مواطنين أكثر فعالية: وفهم حقوقهم ومسؤولياتهم كمواطنين، مما يمكنهم من المشاركة بفعالية فى المجتمع.
وان كان يواجه تدريس الأخلاق بعض التحديات والصعوبات فى كيفية الموازنة بين تنوع وتعقيد وجهات النظر والمواقف الأخلاقية والحاجة إلى الوضوح والاتساق فى التفكير الأخلاقى والأحكام واحترام تنوع خلفيات الطلاب وثقافاتهم وآرائهم، مع مساعدتهم أيضا على تطوير إطار أخلاقى مشترك ولغة مشتركة. والتحدى الآخر هو كيفية تحفيز وإلهام الطلاب للاهتمام بالأخلاق وتطبيقها فى حياتهم ويحتاج المعلمون إلى جعل الأخلاق ذات صلة وذات معنى، من خلال إيجاد طرق لجعل الأخلاق مثيرة للاهتمام فعندما يرى الدارسين للأخلاق كيف يمكن للأخلاق أن تؤثر على حياتهم اليومية، فمن المرجح أن يكونوا أكثر اهتماما بها.
وتدريس الأخلاق يحتاج استخدام الأساليب والمعايير المناسبة لقياس المعرفة والمهارات والمواقف والسلوكيات الأخلاقية للطلاب، مع توفير التوجيه البناء.
وذلك من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب لمساعدة الطلاب على تطوير أخلاق قوية ومنها تفعيل نموذج لاتخاذ القرار الأخلاقى ويرتكز هذا النموذج على مبادئ أخلاقية محددة واستخدام دراسات الحالة والأنشطة التفاعلية.
وعلى صانع القرار التعليمى ضرورة دمج الأخلاق فى جميع المواد الدراسية والتخصصات، فكل العلوم تحتاج إلى الوعى بالأخلاق بصفة عامة وبأخلاقيات هذا العلم بصفة، خاصة ومن بينها علوم الإعلام واللغة والطب والهندسة والذكاء الاصطناعى وغيرها بحيث يصبح الدراس على وعى بالأخلاقيات ومن المهم أن تكون البيئة التعليمية داعمة ومشجعة للحوار الأخلاقى.
ويجب أن يكون المعلم نموذجا للأخلاقيات وفى مقدمتها يجب أن يكون الأساتذة صادقين فى عملهم الأكاديمى، مثل إجراء البحوث، ونشر الأوراق، وتدريس المواد، وتقييم الطلاب ويجب عليهم تجنب أى شكل من أشكال الاحتيال أو التلاعب بالبيانات أو المصادر. وأن يكونوا صادقين فى سلوكهم المهنى، مثل احترام المعايير الأخلاقية والقوانين الخاصة بتخصصهم، وحماية حقوق الملكية الفكرية للآخرين، وتجنب أى تضارب فى المصالح أو الالتزامات. ويجب عليهم أيضا الحفاظ على كفاءتهم والعمل فى مجال خبرتهم وتحمل المسؤولية عن أفعالهم وعواقبها على أنفسهم وعلى الآخرين.
وهناك نقطة أخيرة يجب التركيز على ضرورة الربط بين القانون والأخلاق، حيث يهدف كل من القانون والأخلاق إلى ضبط السلوك الاجتماعى للأفراد، وذلك بغية الحفاظ على حقوق ومصالح ومشاعر المواطنين، وعدم تعرضهم للإيذاء أو الضرر. وإذا كانت الأخلاق ذات طبيعة «مثالية» تسعى إلى تحقيق ما ينبغى أن يكون، فإن القانون ذو نزعة «واقعية» يسعى إلى تحقيق الممكن والمتاح.
وأهم ما يميز القواعد القانونية عن قواعد الأخلاق هو «الجزاء» أو العقاب المادى الذى يتم توقيعه على من يخالف القانون وهى مُلْزِمَة بمعنى أنها مزودة بجزاء مادى – فالقواعد القانونية إنما تتميز بأنها مُؤَيَدة من قِبَل الدولة التى تستطيع أن تفرضها بالقوة حين الاقتضاء أما القواعد الأخلاقية فإن الذى يفرضها على المرء هو ضميره ووجدانه أو الضمير العام فى المجتمع ولكن بدون تدخل من قِبَل الدولة، أى بدون وجود جزاءات وعقوبات مادية فورية تحل بمن يخالفها، وهو أمر الرهان على الالتزام به غير كاف حاليا حيث تسود الرذائل الأخلاقية فى مجتمعاتنا العربية، وتسرى فى هذه المجتمعات سريان النار فى الهشيم والأدهى من ذلك هو الاعتياد على ممارسة الرذائل الأخلاقية – بسبب غياب الجزاءات والعقوبات المادية الفورية التى تحل بمن يخالفها – وكأننا نمارس طقسًا من طقوس حياتنا اليومية المعتادة.
إذن فلا غنى لأى مجتمع سليم عن القانون والأخلاق معاً، وليس أحدهما بديلاً عن الآخر، كما لا يمكن الاستغناء عن أيهما فالقانون تضعه الدولة وترعاه لسلامة المجتمع، فى حين أن الأخلاق هى وظيفة المجتمع ومسؤوليته لرقى الفرد وسموه.
إن الحاجة لمشروع قومى لتعليم الأخلاق هو ضرورة وطنية يجب التكاتف من أجل تفعيلها وربطها بالمجتمع كله فى جميع مجالاته وتخصصاته من أجل إعادة بناء الانسان المصرى المتزن الواعى بحقوقه وواجباته لصالح بناء جمهوريتنا الجديدة العظيمة بإذن الله.
فكما يقول الشاعر أحمد شوقى :
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة