تمر اليوم ذكرى ميلاد مؤسس علم المصريات العالم العربي "ابن الهيثم"، إذ ولد في مثل هذا اليوم 1 يوليو عام 965م، وقد قدم اسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة بتجاربه التي أجراها مستخدمًا المنهج العلمي، وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها العلم الحديث، وهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، أصله من البصرة وانتقل منها إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره كما فعل ابن خلدون.
كان ابن الهيثم من نوابغ أهل عصره في العلوم الرياضية، واشتغل بالفلسفة فلخص كثيرًا من كتب أرسطو وشرحها، وكان كذلك طبيبًا ولخص بعض كتب جالينوس، وكان خبيرًا بصناعة الطب علمًا، ولكنه لم يباشرها عملًا ولم يتدرب على فنون المداواة والجراحة.
وروى علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المهندس أن ابن الهيثم كان موظفًا بالبصرة، وكانت وظيفته تعوقه عن النظر في الحكمة والاشتغال بالفلسفة، فأراد أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في الفلسفة، فتظاهر بالجنون واستمر على ذلك مدة فصرفته الحكومة من المنصب الذي كان في يده، وذلك حسب ما جاء في كتاب "تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية" لـ محمد لطفي جمعة.
ويضيف الكتاب أن: بعد أن خرج من منصبه في البصرة سافر إلى مصر، وهي ما زالت ملجأ كل عالم وأديب من قديم الزمان إلى وقتنا هذا، فأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر، وكان يعيش من نسخ "إقليدس" و"المجسطي" ويبيعهما وبقي كذلك إلى آخر عمره.
ولما كان في مصر بلغ الحاكم بأمر الله وهو سلطانها إذ ذاك خبر ابن الهيثم، وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي العلوي الذي وصفه بعض المؤرخين بالجنون وكفره البعض الآخر وحار الجميع في كيفية اختفائه قبل موته، يميل إلى الحكمة، فلما سمع بابن الهيثم وما هو عليه من الحذق والبراعة والإتقان في الفلسفة والرياضة والهندسة تاقت نفسه إلى رؤيته.
ومما زاد شوق الحاكم إلى ابن الهيثم أنه سمع نقلًا عن ذلك المهندس البصري أنه قال قبل أن يقدم إلى الديار المصرية: "لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملًا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عالٍ هو في طرف الإقليم المصري".
وهنا يعلل جمال الدين أبو الحسن بن القفطي في كتابه (تراجم الحكماء)، ويؤيده ابن أبي أصيبعة سبب تظاهر ابن الهيثم بالجنون في البصرة وسعيه في التخلي عن وظيفته في وطنه، وإن ذلك لم يكن لأجل الانقطاع للفلسفة حسب، لأن الحاكم بأمر الله لما نقلت إليه عبارة الهيثم الخاصة بمشروع هندسة الري في الأراضي المصرية، ازداد شوقًا إلى رؤية "ويلكوكس" ذاك الزمان، وسير إليه سرًّا جملة من المال قبل أن تخلق المصارف، ورغبه في الحضور.
فسار ابن الهيثم إلى مصر بعد أن مهد لرحلته السبيل بادعاء الجنون، فلما بلغ مصر خرج الحاكم بأمر الله للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة اسمها الخندق وموضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة)، وأمر الحاكم بإنزاله وإكرامه واحترامه، فأقام بن الهثيم في تلك الضيافة الملكية ريثما استراح من وعثاء السفر، ثم طالبه الحاكم بإنجاز ما وعد به من أمر النيل.
ولم يكن بن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع (خزان أسوان)، قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون، لا سيما الإنجليز منهم، بعشرة قرون، فسافر ابن الهيثم ومعه جماعة من أهل فن العمارة ليستعين بهم على هندسته التي خطرت له.
ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية، وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة، وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثل هندسية وتصوير معجز، تحقق أن الذي كان يقصده ليس بممكن، فإن من تقدمه في العصور الخالية لم يعزب عن عقولهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوه، فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبلي مدينة (أسوان)، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، فعاينه وباشره واختبره من جانبيه، فوجد أمره لا يسير على موافقة مراده، وتحقق الخطأ والغلبة عما وعد به وعاد خجلًا ومنخذلًا، واعتذر للحاكم بأمر الله فقبل الحاكم عذره وولَّاه ديوانًا فتولَّاه رهبة لا رغبة.
وبن الهيثم لم يشعر بالخيبة بسبب ما رآه من آثار المصريين القدماء، فإن جمال تلك الآثار وجلالها وإتقان صنعتها لا دخل له في مشروع هندسي، ولا نظن أن خبر تلك الآثار ووصفها كان يخفى على بن الهيثم في وطنه، ولكن السبب الحقيقي الذي قعد بهمة بن الهيثم عن الشروع في هذا العمل الجليل هو ما عاينه بنفسه من صعوبة مباشرته وكثرة نفقاته، وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر، وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.
ولا بد أن ابن الهيثم قدَّر بالمعاينة ما يحتاجه هذا العمل فأحجم عنه لما ظنه يحتاج إليه من النفقات الباهظة وأهل الفنون الماهرين، وكانت مصر في ذلك العهد فقيرة في المال والرجال، فسلك ابن الهيثم مسلك الرجل الحكيم وامتنع عن العمل في أوله، وهذا أفضل مما لو أنه شرع فيه ثم توقف في وسطه، فكان يجلب على البلاد غرمًا وهي تنتظر منه غنمًا.
فلما عاد وتولى الديوان المصري تحقق له الغلط في تلك الولاية؛ لأن الحاكم كان كثير الاستحالة مريقًا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله، فأجال ابن الهثيم فكره في أمر يتخلص به، فلم يجد طريقًا إلى ذلك إلَّا الذي لجأ إليه وهو في البصرة عندما أراد النزوح إلى مصر، فتظاهر بالجنون وشاع خبره فعين له الحاكم قيمًا وحجز على أمواله لمصلحته، وجعل برسمه من يخدمه وقيدوه وتركوه في موضع من منزله.
وما زال ابن الهيثم على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم، فأظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وخرج من داره واستوطن قبة على باب الأزهر، وأعيد إليه ماله واشتغل بالتأليف والنسخ، وكان يبيع في كل سنة ثلاثة كتب من نسخه وهي "إقليدس" و"المتوسطات" و"المجسطي" بمائة وخمسين دينارًا مصريًّا، وكان ثمن تلك الكتب محددًا لا يقبل فيه مواكسة ولا معاودة قول، فيجعلها مئونة حياته طول سنته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة