فى الوقت الذى يمثل فيه الاعتراف الثلاثى بدولة فلسطين خطوة مهمة، فى تاريخ القضية المركزية فى الشرق الأوسط، بما يمثله من اختراق كبير للمعسكر الغربي، والمعروف بانحيازه للاحتلال الإسرائيلى منذ عقود طويلة من الزمن، إلا أنه فى اللحظة نفسها، يحمل امتدادا لدعوات عدة فى الداخل الأوروبى لتحقيق قدر من الاستقلالية عن المواقف التى تتبناها الولايات المتحدة، والتى تقود هذا المعسكر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذى شهد العديد من الإرهاصات فى السنوات الأخيرة، ربما أبرزها التحول نحو تعزيز العلاقات التجارية، بين القارة العجوز، والصين، والتى تمثل خصما مهما للولايات المتحدة فى هذا المجال، ناهيك عن دعوات بتأسيس جيش أوروبى موحد، يعكس شكوكا عميقة حول مستقبل الناتو.
وفى الواقع، يعد الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة، ليس بالأمر الجديد تماما، إلا أن امتداده إلى أحد القضايا الدولية الكبرى، على غرار القضية الفلسطينية، بمثابة اعتراف ضمنى بحالة من التفكك فى أركان النظام الدولى فى صورته الراهنة، والذى تتصدره واشنطن، إلا أنه فى الوقت نفسه يسلط الضوء على مستقبل تلك المؤسسات الدولية التى أرساها النظام أحادى القطبية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، والذى يمثل باكورة تلك المؤسسات، حيث تم تأسيسه بصورته الحالية، عبر معاهدة ماستريخت التى أبرمت فى ديسمبر 1991، تزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ليعلن نهاية الثنائية القطبية، خاصة وأن الانقسام، فى الحالة الفلسطينية، ليس فقط أوروبيا أمريكيا، وإنما فى واقع الأمر يبدو أوروبيا - أوروبيا.
ولعل الموقف الأوروبى فى صورته الجمعية، من فكرة الاعتراف بدولة فلسطين، لا يحمل جديدا، فالاتحاد يبدو داعما لها، باعتباره الأساس للشرعية الدولية، إلا أن الخلاف يبقى قائما فى التوقيت، وهو بالمناسبة نفس الخلاف من الناحية النظرية، مع الرؤية الأمريكية، إلا أن الحالة الأوروبية تبدو مثيرة للتساؤل، فى ظل العديد من المعطيات، ربما أبرزها الحاجة الملحة لتبنى مواقف موحدة، تجاه القضايا الكبرى، خاصة وأن الفرصة تبدو سانحة أمام القوى الإقليمية، فى مختلف مناطق العالم للقيام بدور أكبر فى المستقبل، بعيدا عن التبعية المطلقة للقوى المهيمنة على النظام الدولي.
والحديث عن العلاقة بين أوروبا والقضية والفلسطينية، ربما يرتبط بالإرث التاريخى المهم، الذى تحظى به القارة العجوز، وهو ما يتلامس بصورة مباشرة مع إسبانيا والنرويج، واللتين اعترفتا مؤخرا بدولة فلسطين، فالأولى استضافت أول مؤتمر للسلام بين العرب وإسرائيل فى عام 1991، فى حين كانت العاصمة النرويجية أوسلو مقرا للاتفاقية التى وقعت بين وزير الخارجية الإسرائيلى الأسبق شيمون بيريز، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما يعكس أهمية الخطوة بالنسبة للدولتين، بينما تبقى إيرلندا هى الأخرى صاحبة السبق فى القارة العجوز، فى 2021، فيما يتعلق بإقرارها لقانون يضع المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، فى إطار "الضم غير القانوني" للأراضى الفلسطينية.
ويعد الإرث الذى تحظى به الدول الثلاثة، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بمثابة أساسا مهما، تسعى من خلاله لتحقيق طفرة جماعية فى الدور، الذى يمكنهم القيام به، ومن ورائهم القارة، فيما يتعلق بالقضية الأكبر على المستوى الدولي، وهو ما يفتح المجال أمام دور أكبر لها على المستوى العالمي، خاصة وأن البيئة الدولية باتت مهيأة لأدوار أكبر فى المرحلة الحالية، والتى تتجاوز فى جوهرها القوى الأحادية المهيمنة، خاصة بعدما فشلت واشنطن، سواء خلال العقود الماضية، فى تحقيق أى خطوة من شأنها الانتصار للشرعية الدولية، بينما تجلى الفشل بصورة أكبر خلال اللحظة الراهنة المرتبطة بالعدوان، مع الاستخدام المتواتر للفيتو، ضد وقف إطلاق النار، ثم بعد ذلك لإجهاض حق فلسطين بالحصول على العضوية الدائمة فى الأمم المتحدة.
الموقف الأوروبى المنقسم حول توقيت الاعتراف بفلسطين، يمثل عودة كبيرة للوراء، فى العديد من المسارات، ربما أبرزها ما يرتبط بأهمية استثمار الزخم الراهن، فيما يتعلق بالقضية المركزية فى الشرق الأوسط، والتى تمثل أحد أهم مناطق النفوذ الأمريكى فى العالم، وأحد أهم الأسباب الرئيسية وراء هيمنتها على العالم لأكثر من ثلاثة عقود كاملة من الزمان، بينما يقوم المسار الآخر على التداعيات المترتبة على الانقسام الراهن على مستقبل أوروبا الموحدة، خاصة وأن تلك الحالة لم تعد مرتبطة فقط بسياسات تهدف فى الأساس لحماية المصالح الفردية، خاصة فيما يتعلق بالتجارة أو الأمن، وإنما تجاه قضية دولية كبرى، تمثل مدخلا مهما، حال التداخل الإيجابى بها، لمزيد من النفوذ الأوروبي، فى ظل تراجع ملموس، فى العديد من المناطق حول العالم، سواء فى الشرق الأوسط أو أفريقيا فى السناوت الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن أوروبا تبدو مؤهلة للقيام بدور دولى أكبر، من بوابة فلسطين، حال قدرتها على تجاوز اختبار خلع الجلباب الأمريكي، فيما يتعلق بالاعتراف بالدولة، بينما يمكنها تعزيز وحدتها من خلال موقف جماعى قوي، من شأنه الانتصار للشعب الفلسطيني، سواء بخصوص حقه التاريخى فى بناء دولته المستقلة، أو اللحظة الراهنة، من خلال مجابهة الانتهاكات الصارخة المرتكبة بحق سكان غزة، وهو ما يمثل فرصة لتعزيز المواقف الأوروبية، أمام شعوب المنطقة، بعد سنوات من فقدان الثقة جراء التبعية المطلقة للقوى الدولية الحاكمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة