فى المقالين السابقين، طرحنا ضرورة عدم إقحام الأديان فى التاريخ، وإبعاده عن كل ما سجلته الآثار بمختلف أنواعها، سواء كانت معابد أو مقابر أو ألواحا طينية وأوراق بردى أو عظاما وجلودا، لأحداث ووقائع تاريخية منقوشة، ومع ذلك لم تذكر أى شىء عن الأنبياء والرسل والكتب السماوية، كما أكدنا أيضا أن المصرى القديم بجانب براعته فى العلوم والرياضيات والفلك، وبلغ فيهما حدا ما زال لغزا محيرا لكبار العلماء فى عصرنا الحالى، رغم كل ما توصل إليه من تقدم وطفرات علمية، توصل أيضا إلى حقائق دينية مثل البعث والعالم الآخر والحساب والعقاب وانفصال الروح عن الجسد وصعودها للسماء.
يتبقى أن الدين عند المصريين القدماء لعب دورا كبيرا ومحوريا فى حياتهم، وشغل الحيز الأهم من تفكيرهم، وتوصلوا لحقائق مدهشة، تثير إعجاب ودهشة الجميع حاليا، فى ظل أن تفكيرهم سبق هبوط الرسائل السماوية بآلاف السنين، كما توصل للضمير الإنسانى، والذى أكده العالم الأمريكى الشهير فى حضارات الشرق الأدنى، الأمريكى، جيمس هنرى برستيد، والذى أثبت بالأدلة والبراهين تأسيسا على وثائق وشواهد أثرية، أن المصريين توصلوا للضمير الإنسانى قبل نزول التوراة على الأرض بألفىّ سنة على الأقل، فى انقلاب علمى دحض به ادعاءات اليهود بأن الإنسان لم يتوصل للضمير إلى بعد نزول التوراة.
لكن المثير أن المصرى القديم كان يمارس طقوس الحج فى مكانين بارزين كان يحج إليهما، الأول، معبد «الأزوريين» والذى يقع خلف معبد سيتى فى منطقة أبيدوس مركز البلينا محافظة سوهاج، وهو معبد تحت الأرض ويضم قبر المعبود «أوزوريس»، أما أبرز ما يضمه المعبد هو ممر طويل يصل إلى 60 مترا، وعرضه متران ونصف المتر تقريبا، وارتفاع السقف حوالى 3 أمتار، والممر مغطى بالطوب بشكل نصف «قبة» بينما توجد فى نهاية الممر، حجرة الممر.
ويضم الممر كتابات كاملة تتحدث عن الموت ويوم الحساب، والجنة والنار، فى توصل لحقائق مذهلة أكدتها الأديان السماوية بعد هبوط الرسائل، فيما بعد، وأن هذه النصوص المسجلة، لا مثيل لها فى أى حضارة من الحضارات القديمة، ما يؤكد عبقرية المصرى القديم فى توصله لأمور لا تتعلق بالعلوم مثل الكيمياء والفلك والرياضيات والطب والهندسة، والنحت والنقش والموسيقى، وغيرها من هذه الأمور، ولكن تجاوز الأمر إلى توصله لحقائق دينية أكدتها الأديان السماوية بعد ألفين سنة على أقل تقدير.
والأوزريون، معبد فريد من نوعه فى مصر القديمة، ويتفرد ببناء مختلف، عبارة عن قبر رمزى للمعبود أوزوريس ومعبد لعبادته لأنه كان معبود المنطقة، ويتكون من 10 دعامات من حجر الجيرانيت الوردى وكان له سقف مقبى لم يتبق منه سوى جزء صغير فى الجهة الشمالية الشرقية.
المكان الثانى الذى كان يحج إليه المصرى القديم، وفق ما أكده عالم المصريات، الألمانى، أدولف إيرمان، فى كتابه الشهير «ديانة مصر القديمة» هو معبد فخم أمام هرم الملك ساحورع «حوالى 2550 قبل الميلاد» غنى بالرسوم والنقوش التى تمثل الملك متعبدا أمام مختلف الآلهة، وقد مثل فى إحدى اللوحات أمام الإلهة ذات رأس الأسد «سخمت» وكان لهذه الصورة - لسبب ما زال مجهولا - حظوة خاصة، وأصبحت صورة سخمت ساحورع تحظى بتقديس خاص، وصار هذا المعبد المهدم هيكلا صغيرا لسخمت، يحج إليه الناس، والغريب أن زيارته لم تقتصر على عامة الشعب، أو فئة النبلاء والأشراف، وإنما كان مقصد الجميع من كل طبقات الشعب، يؤدون الطقوس الدينية ويقدمون القرابين.
وكان الحجاج - وفق ما أكده أدولف إيرمان، يقدمون علامة على تعبدهم عبارة عن نُصب (صورة) ذات آذان، فى رسالة هدفها إخبار الناس أن الإلهة تسمع وتستجيب للدعاء، وهناك نذور أخرى أكثر بساطة مصنوعة من الطين الملون، وصلتنا فى كميات كبيرة للغاية، ما يدل على قيام تجارة حقيقية ضخمة لمناسبة «موسم الحج».
معبد سخمت استمر الحج إليه أكثر من 1000 سنة، واستمراره على الرغم من تهدم كل المعابد التى كانت تحيطه.
ومن نماذج الدعاء الذى سجلته لوحة صغيرة تعود لعهد الملكة أحموزه نفرتارى، والتى كانت على رأس الأسرة الـ18 تصور أحد الأشخاص الذين يعبدون أمنوفيس بالدعاء ونصه: «إن من يدخل إليك حزين القلب يخرج فرحا مستبشرا، الكبار والصغار يأتون إليك من أجل اسمك لأنهم يسمعون عن قوة اسمك».
وهناك لوحة أخرى، تسرد قصة شخص أقسم زورا باسم بتاح فأراه هذا الإله - سيد الحق - الظلام فى النهار، وجعل منه شبيها بالحيوانات، وجعل الناس ينظرون إليه كشىء بغيض نحو سيده، واستمرت اللوحة فى سرد إعلان هذا الشخص توبته قائلا: «بتاح سيد الحق، عادل نحوى، كن راضيا عنى حتى أرى كم أنت عطوف».
أيضا المصور «نب رع» الذى كان قلقا على ابنه المريض، لأنه ارتكب إثما فى حق الإله، فنذر نذرا: «سأضع لأمون أغنيات باسمه، وسأمدحه بقدر ما ترتفع السماء، بل بأبعد مما تمتد إليه الأرض، سأقص مدى قوته لمن يصعد على النهر أو يهبط، التفتوا جيدا واحذروه، بلغوه لكل فتى وفتاة، للكبار والصغار، اذكروه لكل الأجيال، بل للأجيال التى لم تأتِ بعد، اذكروه لسمك الماء وطيور السماء، اذكروه لمن يعرفونه ولمن لا يعرفونه، التفتوا جيدا واحذروه، يا أمون رع أبو الأرباب، أنت سيد من يصمت، أنت الذى تستجيب دعاء البائس، إن صرخت لك فى شقائى فإنك تأتى لتعيننى.
وتسرد اللوحة، إنه عندما استرحم الأب هذا الإله « أتى الإله على هيئة ريح الشمال ونسيم عليل ومر من أمامه وأنقذه من مرضه».. وعندئذ قال الأب معترفا بالفضل: «كنا أن العبد مستهدف للإثم، كذلك المولى مستعد للصفح، إن سيد طيبة لا يمر على غضبه يوم كامل، إذا ما غضب فإن غضبه لا يستمر سوى لحظة، ثم لا يبقى له أثر.
وللحديث بقية إن كانت فى العمر بقية، إنشاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة