محمد عبدالرحمن زغلول

الفتوات بين نجيب محفوظ وأنور عبد المغيث

الأربعاء، 24 أبريل 2024 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صنع نجيب محفوظ في أعماله عوالم من دنيا الفتونة في القاهرة، وقصد بها هؤلاء الأشخاص الأقوياء والجبارين في أغلب الأحيان الذين أصبحوا ملوكًا وحكامًا لمناطقهم الصغيرة، يفرضون الإتاوات لزوم الحُكم، وتسيير الأمور، وعادة ما يتمتعون بقوة الجسد، والمهابة، وغالبًا ما يستمرون فى مكانتهم حتى يأتى آخرون أقوى منه، ليزيحوهم ويتولون هم المهمة.

وكانت الفتونة التي كتب عنها محفوظ، امتدادًا للشطار والعيارين الذين ظهروا في القرون الوسطى، وشكلوا جماعات خارج القانون، ونتيجة لتهميشهم، وعزلتهم، ونبذهم، تضاعفت قوتهم وتأثيرها مع الوقت، ودخلوا فى صراع مع المجتمع، وأصبحوا يأخذون حقوقهم الشرعية بأساليب غير شرعية، لكنهم ليسوا  أصحاب شر مطلق ولا خير مطلق، إذ أخذ تصويرهم في الأدب العربي على التيمة الروبن هودية، باعتبارهم اللصوص الذين يسرقون الأغنياء من أجل تحقيق العدالة واستخدام القوة لصالح الفقراء والمظلومين.

لكن مع الوقت تغير حال «الشطار» وتحولوا إلى الثنائية الحياتية المعهودة «الخير والشر»،  قبل أن تتطور الظاهرة نفسها إلى «الفتوة» في القرن التاسع عشر الميلادي، بعدما قسمت القاهرة القديمة إلى مناطق نفوذ تحت إمرة رجال يختارهم الناس بإرادتهم ليكونوا حراسًا عليهم، ويكونوا ملجأهم من الآخرين الأكثر قوة وشرًا، ويكونوا معادلين للحاكم الشعبي الرسمي وميزان الأمن والأمان في المجتمع، إلا أن الفتونة أيضا تحولت مع الوقت من حماية الناس لقمعهم، فمع شعور هذا الحارس – الفتوة- بأنه مسؤول عن الحارة وعن أهلها، وأن الجميع يخشونه، يفرض نفسه فتوّة عليهم، ليتحول مع الوقت جبارًا ظالمًا، وفارضًا للإتاوات على أبناء منطقته، أو على كل من يطلب الحماية منه.

نجيب محفوظ في كثير من أعماله صاغ صورة الفتوة في الحارة المصرية، وجاءت شخصية «الفتوة»، تعبيرا دقيقا عن حالين متناقضين: القهر والمدافعة، فهناك من دافعوا عن حقوق البسطاء كما فعل عاشور الناجي في «الحرافيش» الذي ظل محتفظا بالكثير من الصفات الطيبة كالشجاعة والشهامة والصبر والمحافظة علي الحرم، وهناك من جعلوا قوتهم وأتباعهم وسيلة لاستلاب كرامة الناس، وحقهم في الحياة المستقرة، وهو ما يحدث في «أولاد حارتنا» لكن قوة الفتوة ليست ثابتة لكنها متغيرة مثلها مثل وتيرة الحياة، فنجد فتوات محفوظ عاشوا حياة الأفول وزوال القوة وانقضاء عصر قوتهم، بعضهم شهد الذل والهوان علي يد أقرب أتباعه، والذي يحمل من بعد مُعلمه لواء الفتونة لكنه لم يحفظ هذا الجميل، بل ورث الجبروت في بيئة فاسدة لا أخلاق فيها، بينما كان مصير الآخر القتل.

فتوات نجيب محفوظ لم تكن مثالية، بل لم تكن تخلو من التناقضات، وأول هذه التناقضات سوء الأصل والجذور، وتناقضات جمع بين ضخامة جسمه، ورهافة حسه وعطفه على الضعفاء، وهي أيضا دائما التحولات من الانحراف إلى شاطئ الاستقامة، فنجد كثير من فتوات محفوظ تائبين أما لمس الحب أو أراد التوبة والعودة إلى الله أو حتى الجنون مثل «جلال» في الحرافيش الذي حاول قهر الموت والتخلص منه بمؤاخاة الجان، والتحامه مع الشيطان، ليستفيد «محفوظ» من الفتوات في التعبير عن الصراع بين ثنائيات الدين والعلم، والقهر والتطلع إلي العد.

قدم الكاتب أنور عبد المغيث في معالجته العصرية لقصة «جودر الصياد وأخوته» من حكايات ألف ليلة وليلة، صورتين مختلفتين للعيار والشطار، وهاتان الصورتان لم تختلفا كثيرا عن بعضهما البعض، إذ أعاد عبد المغيث إلى الأذهان صورة الفتوة في الرواية المحفوظية وربما أيضا بعدا آخر وكأنه يستكمل رؤيته لم صاغه محفوظ عن حكام الشوارع والأزقة في القاهرة القديمة.

في «جودر» أعاد عبد المغيث تقديم صورة العيارين في ثوب الفتوات المحفوظيين، فنجد المعلم وردان «محمد عبد العظيم» زعيم العيارين فتوة المنطقة الذي يسكن فيها جودر، والذي يحمل صفات تميزه عن اللصوص مثل الشهامة والمروءة، ورفض ممارسات رجاله بالتحرش بالنساء، بل وقام بصفع مساعده شومان بعد تحرشه، كذلك لجأ «وردان» إلى الشيخ عبدالله الحطاب ليطلب التوبة في أيامه الأخيرة وبعدما تحول حاله إلى تابع لشومان تابعه السابق.

على الجانب ظهر تابعه وساعده الأيمن شومان «أحمد كشك» على النقيض منه تماما، فهو يظهر كرمز  للشر والإجرام والخسة والنذالة والانحطاط والظلم ولعل تصور عبد المغيث يحمل إسقاطا على تطور الفتوة الذي تحول إلى البلطجي الآن، وبفعل الزمن يصاب وردان وتقطع قدمه، ويصبح مساعده شومان هو الفتوة الجديد، لكن لم يحفظ جميل معلمه بل أظهر مزيدا من الخسة، ليظهر بعد ذلك وهو يهين فتوته القديم، قبل أن يقتله في النهاية انتقاما من فعلته القديمة، ويحرق محل جودر، كذلك كان جودر «ياسر جلال» معدلا لأسطورة البطل الشعبي المتجذرة في الوعي الجمعي المصري منذ سنوات بعيدة، وظهر كرمزاً للخير ومثالاً للحاكم الصالح العادل، وجمع فيه صفات الفتونة المثلى بما فيها القوى الجسدية والروحية مثله عاشور الناجي فى «الحرافيش».

التصور الذي وضعه أنور عبد المغيث أعاد إلى الأذهان ما صاغه محفوظ من قبل في كتابه في «حكايات حارتنا» حيث نجد الفتي «زيان» ذلك الشاب المغمور الذي يعمل صبي مبيض نحاس ويكدح من أجل كسب لقمة عيشه، لكنه ينقم على مهنته ويريد الانضمام إلى رجال عصابة السناوي لتحقيق المركز والثراء السريع، فيطلب من صديق أبيه «ميمون الأعور» أحد المقربين لفتوة الحارة أن يتوسط إليه كي يكون أحد رجاله، ولكن زيان يتفاجأ بأن السناوي يطلب منه قتل «أم علي» تلك المرأة التي تمرد على حاله من أجلها، فكيف يتحول الآن لقاتلها!، فيعود مجددًا إلى «ميمون» كي يتشفع له مرة أخرى عند الفتوة ولكن هذه المرة من أجل إثنائه عن قتل حبيبته، وهنا ينهره ميمون ويؤكد له أن الأوان قد فات وأن «السناوي» لن يرحمه وعليه تحمل نتيجة خطئه، وحين يعود إلى أمه ليشكي إليها همه، تطلب منه مغادرة الحارة على الفور، هاجرًا بيته وحارته وعمله، دون عودة، مستقبلًا العناء والمجهول. وفي المعالجة السينمائية التي وضعها وحيد حامد للقصة سالفة الذكر نجد السناوي تقاعد بعد إصابته في إحدى المعارك وأصبح مساعده عباس هو الفتوة بعدما تنازل له عنها.

ربما اقتبس أنور عبد المغيث صورة العيارين في جودر من فتوات نجيب محفوظ واستفاد من معالجة وحيد حامد للتصور، وربما كان الموقف مجرد توارد خواطر، لكن الأهم هو الصورة التي خرج بها، بحيث تشعر بأن عبد المغيث يعيد تركيب صورة الفتوة التي صاغها محفوظ لكن في صورة عصرية أقرب إلى صورة البلطجي الذي يمارس أعمالا غير أخلاقية، وكذلك يضع صورة جديدة للبطل الشعبي مغايرة في التصور لما وضعها محفوظ من قبل مثل عاشور الناجي وأبنائه، لكنها متشابه في الجوهر من جوهر الفتي الذي يتحول إلى رمز القيم والعدل وإنصاف البسطاء والمظلومين في حارته.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة