برحيل الفنان القدير صلاح السعدني، تنتهي مرحلة مهمة من حياتنا، نحن الذين تربينا على نموذج السعدني ذلك المشغول بالإنسان قدر انشغاله بالفن، ذلك الذي تشعر بأنه يشبهنا بصورة أكبر من أي فنان آخر.
كان صلاح السعدني رجلا مسكونا بالمحبة، لا يرى في الفنان سوى القدرة على التعبير عن المشاعر، لذا كان يسرقني من نفسي دائما، ويجعلنى أشعر به متصالحا مع العالم فأتمنى أن أشبه روحه ، وعندما كانت تطل صورته على الشاشة ينشرح صدرى، وإن كنت متكئا أعتدل فى جلستى، وألقى سمعى وقلبى إليه، وهو يتمهل فى نطق الكلمات فلا يتركها تفلت من شفتيه لأنه يعرف معنى "الكلمة" ويسمح لابتسامة دائمة أن تسكن جانب فمه بشكل دائم لا يؤرق سوى الخائفين من الحياة .
كنت دائما أراه شخصا يملك الحزم والحب والحلم، ولعل "نصر وهدان القط" فى "حلم الجنوبى" هو الشخصية الأقرب لروح السعدنى، الذى يعرف سبل الحق والخير ويبحث عن إنسانية العالم، فى نظرته تفاصيل كثيرة تتجاور مع الخجل الذى يمنحه الوقار والحزن الذى يصيبه كل حين بسبب غياب العدل، هو يفهم لماذا يوجد الشر لكنه يؤمن بأن المستقبل فقط للمؤمنين بالإنسان.
وكان وجه صلاح السعدنى مصحوبا بالراحة الدائمة، ملامحه مصرية خالصة، كأنه خارج من مسجد الحسين منذ قليل، يجلس على مقهى منتظرا ابنه العائد من مدرسته كى يحكى له مغامراته البريئة، يسمعها ويضحك، والطفل يواصل الحكى معجبا بأبيه الذى يتسع قلبه ليشمل عالم الطفل الذى بلا ضفاف.
وكان حضور السعدنى يثير فى نفسى قراءة الشعر ويبعث فى داخلى فلسفته، كأنه قصيده كتبها الشاعر الكبير سيد حجاب، والذى حتما كان يقصده إذ يختتم كل يوم مسلسل أرابيسك بقوله "ويرفرف العمر الجميل الحنون/ ويفر ويفرفر فى رفة قانون/ وندور نلف ما بين حقيقة وظنون/ وبين أسى هفهاف وهفة جنون/ ويرفرف العمر الجميل الحنون".
كان صلاح السعدنى يشعرني بأن خلفه تاريخا طويلا من الثقافة والوعى بقيمة الذات، وأن الفن ليس "أكل عيش"، لكنه أمانه يحملها فى "كونشرتو فى درب سعادة"، فهو دائما فى أعماله يجمع بين متناقضين "صعلوك وملك"، لذا فإن دوره فى مسرحية "الملك هو الملك" التى كتبها السورى الرائع "سعد الله ونوس"، تحمل قدرا كبيرا من فهم صلاح السعدنى للدنيا المتناقضة، والتناقض هنا ليس له سوى معنى واحد هو "الإنسان"، فهو "ابن الإنسان" كما أتخيله وأراه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة