في الوقت الذي يعاني فيه مفهوم "الشرعية الدولية"، من أزمة عميقة، جراء ارتباطه لعدد محدود من القوى الدولية، أو بالأحرى قوى وحيدة، يمكنها حشد حلفائها لإضفاء الزخم على رغباتها، أو تقويض إرادة المجتمع الدولي، في العديد من القضايا، عبر ما تملكه من مزايا، وعلى رأسها حق "الفيتو"، وهو ما يبدو في أزمة غزة، تبقى حالة البحث عن بدائل قائمة، لتعزيز إرادة الدول، وتحقيق الاستقرار في العديد من مناطق العالم، وهو ما تجلى بوضوح، في اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، سواء من قبل جنوب أفريقيا، في الجولة التي خاضتها ضد الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في القطاع منذ ما يقرب من 5 أشهر كاملة، ثم تحول الأمم المتحدة إلى الجهاز نفسه، والذي يمثل ذراعها القضائي، في ضوء عجز آليتها التنفيذية عن تحقيق أي تقدم يذكر، فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، في ظل الاستخدام الأمريكي المتواتر لحقها في نقض القرارات الأممية.
إلا أن الأمور ربما لا تقتصر بأي حال من الأحوال على تجربة اللجوء إلى القضاء الدولي، لتحقيق العدالة المفقودة، وتعزيز الشرعية "المتعثرة"، بسبب قوى واحدة تفرض إرادتها على العالم، حيث يخرج من رحم تلك التجربة الثرية، والتي سوف تترك لا محالة نتائج إيجابية على مستقبل القضية الفلسطينية بأسرها، صعودا للدور الذي تلعبه الأقاليم الجغرافية، والتي بات من الممكن أن تساهم بصورة كبيرة في تحقيق الاستقرار العالمي، وهو ما بدا في خطوة جنوب أفريقيا، وتداخل العديد من الدول من مختلف مناطق العالم، في المرافعات الأخيرة أمام محكمة العدل الدولية، في الأيام الماضية، ناهيك عن الدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الإقليمية، والأخرى "العابرة للأقاليم"، والتي من شأنها إضفاء المزيد من الزخم على الحلول والرؤى التي ترتضيها الغالبية الكاسحة من دول العالم، في مختلف القضايا.
فلو نظرنا إلى الدول التي تقدمت بمرافعات أمام محكمة العدل الدولية، حول فلسطين، نجد أن ثمة تنوعا جغرافيا، يشمل ممثلين عن قارات العالم، بين مصر وزامبيا والتي تمثل قارة أفريقيا، والإمارات والسعودية، وكلاهما من آسيا، بينما تجمع الهوية العربية الدول الثلاثة، بالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا من أوروبا الغربية وروسيا من أوروبا الشرقية، وكذلك تركيا، ناهيك عن الصين، والولايات المتحدة، مع مشاركة من كل من جزر القمر وفيجي وجزر المالديف، بينما لا يمكننا أن نتجاهل جنوب أفريقيا صاحبة الدعوى الأولى، باعتبارها نقطة الانطلاق نحو اللجوء إلى العدالة، لإنقاذ الشرعية.
تلك الحالة المتنوعة جغرافيا تبدو كاشفة للعديد من الحقائق، ربما أبرزها أن ثمة معارضة باتت معلنة، وذات غطاء رسمي للمواقف الأمريكي، من قبل قوى دولية وإقليمية مؤثرة، أمام المحافل الدولية، يمكنها أن تحقق مكاسب، بينما تضع المزيد من الأعباء السياسية والأخلاقية، على كاهل الولايات المتحدة، في ضوء إصرارها على دعم الدولة العبرية، وهو الأمر الذي ربما سبقته عدة إرهاصات، منها إعلانات أوروبية عن ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين، على غرار إسبانيا وبلجيكا، بل وامتدت الدعوات على المستوى الأوروبي الجمعي، عبر تصريحات من قبل مسؤولين بارزين في الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يفقد واشنطن أحد أهم نقاط القوة التي تمتلكها، وهي القدرة على توحيد معسكرها، والوصول به إلى مواقف موحدة، تنهار أمامها الرؤى المناوئة، في ظل انقسامات تضرب أصحابها.
وهنا يبدو من الأهمية الكبيرة أن نشير إلى النهج الذي تتبناه الدولة المصرية، في إطار إدارتها للأزمات في محيطها الإقليمي، في السنوات الأخيرة، والذي يقوم في الأساس على بناء توافقات، وعقد مصالحات، وتبنى رؤى تعتمد مبدأ الشراكة، من شأنها تعزيز المصالح البينية، لكي يمكن من خلالها الانطلاق نحو نقاط مشتركة، يمكن البناء عليها في القضايا الخلافية، وهو ما بدا في الإدارة المصرية لأزمة العدوان على قطاع غزة، والتي حققت خلالها توافقات "عابرة للأقاليم" عبر قمة القاهرة للسلام، ثم تحولت نحو تحقيق حالة أشبه بالإجماع الإقليمي، في القمة العربية الإسلامية بالرياض، ساهمت في إضفاء قدر من الزخم على القضية الفلسطينية، بينما سلطت الضوء على الانتهاكات المرتكبة في غزة.
بينما تبقى المرافعات التي قدمتها المنظمات الإقليمية، وهي جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي، أمام محكمة العدل الدولية، هي أحد أهم أبعاد "الإقليمية الصاعدة" سواء في صورتها التقليدية أو في صورة تتجاوز الجغرافيا التقليدية، خاصة وأن الحقبة الدولية الراهنة، تجسد صور جديدة للتكتلات التي تتجاوز الإقليمية المحدودة، وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق، خاصة مع بزوغ تكتل "بريكس"، وما تحمله مثل هذه التنظيمات من قوة وتأثير، في ضوء تنوعها الجغرافي، ونفوذ الدول الأعضاء بها، وقدرتهم الكبيرة على المشاركة في صناعة القرار الدولي، ناهيك عن ابتعادها عن سيطرة واشنطن، وحلفائها الغربيين.
وفي الواقع، تحظى كلا من جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بميزة الامتداد الجغرافي، حيث تبقى الهوية، سواء العربية أو الإسلامية، هي نقطة الالتقاء التي تجمع بين أعضائها، وهو ما يضفي لهما مساحة كبيرة من التأثير، أمام المحافل الدولية، ويساهم في إضفاء قدر كبير من الزخم على القضايا التي تدعمها في مواجهة ما أسميته في المقال السابق بـ"آليات" تقويض الشرعية، وعلى رأسها حق الفيتو، بينما تبقى مشاركة الاتحاد الإفريقي، ودخوله على خط الصراع، بمثابة إضافة مهمة وامتداد ملفت، لما سبق وأن أقدمت عليه جنوب أفريقيا، عبر الدعوى التي رفعتها ضد الاحتلال، وهو ما يساهم في تعزيز حالة من التضامن الجغرافي، ليتجاوز المحيط الجغرافي للقضية الفلسطينية، مما يعزز شرعيتها، في مواجهة محاولات تقويضها، وهو الأمر الذي يمكن اعتبارها دعما قاريا لخطوة بريتوريا، باعتباره الكيان الجمعي للقارة السمراء.
وهنا يمكننا القول بأن البعد الإقليمي، والقائم على تعزيز التوافقات "العابرة للأقاليم" تمثل أحد أهم الأبعاد المهمة في تعزيز الشرعية الدولية، في ظل حالة من التعثر الواضح، جراء سيطرة قوى محدودة على مراكز صناعة القرار الدولي، وهو الأمر الذي قد يشهد تطورا ملموسا، مع صعود تكتلات أخرى، تبدو مؤثرة على المستوى العالمي، تحظى بدعم كبير من منافسي الولايات المتحدة، بينما تبدو خارجة عن سيطرتها، وهو ما يساهم في مزيد من الصعود للأصوات المعارضة لأمريكا، وربما يمكنها مجابهة آلياتها لتقويض الشرعية، أو شرعنة توجهاتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة