الإيماءات واللمزات، فى تدشين المسميات لما يحدث فى سوريا حاليا، أمر يجب الوقوف أمامه بالرصد والتحليل الدقيق كثيرا، والتركيز الشديد على المصطلحات، فكل مصطلح يدشن يحمل رسالة وهدف، المصطلح اللافت المدشن حاليا وبدأت جماعة الإخوان تبنيه وتسويقه، بشكل صاخب هى «فتح» سوريا!
البداية عندما دخلت الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، فى ثوبها الجديد، واستطاعت أن تصل لدمشق، دشنت مصطلح «تحرير سوريا» وهو خطأ وقع فيه عدد كبير من الأشقاء السوريين، فالحقيقة أن التوصيف الصح هو «إسقاط النظام فى سوريا»، وأن التحرير هو تحرير الوطن من محتل أجنبى، فهل تحررت الجولان، أو طُردت القواعد العسكرية المتعددة فوق الأراضى السورية؟ والإجابة: بالطبع لا.. إذن فإن مصطلح تحرير سوريا، غير دقيق، وبعيد كل البعد عن التوصيف الحقيقى لما جرى.
ولم تمر أيام حتى فوجئنا بأعداد غفيرة من جماعة الإخوان، تزور سوريا، وكأنهم يحجون للمسجد الأموى فى دمشق، ويظهرون فى وسائل إعلام بعينها وعبر بث حى على مواقع التواصل الاجتماعى، يعبرون عن فرحتهم الشديدة بـ«فتح سورى» وهنا يظهر تدشين مصطلح «فتح» على ألسنة جماعة الإخوان، وكأنه سيناريو متفق عليه وينفذ مشاهده بدقة شديدة، وأن الترويج لمصطلح «الفتح» عبارة عن نبش فى الماضى، لإعادة تدويره وتسويقه بشكل جيد تمهيدا لتصديره للخارج!
ويوم الأربعاء الماضى، ردد الرئيس التركى طيب رجب أردوغان، خلال اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، الحاكم فى تركيا، نفس المصطلح، عندما بدأ بتلاوة الآيتين «1 و2» من سورة «الفتح» بسم الله الرحمن الرحيم «إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما» صدق الله العظيم.
وقال إن «الأشقاء السوريين حققوا نصرا عظيما ومؤزرا» بعد نضال دام 13 عاما.
هذا المصطلح دشنته الدولة العثمانية ووقع فى شِراكه الشعوب العربية عندما اعتبروا الغزو العثمانى لبلادهم «فتحا» وعمموها فى المناهج التعليمية، رغم أن هذا الغزو جلب الوبال على الأمة، ودفع بالبلاد العربية فى براثن التخلف، وكأن مصر، على سبيل المثال، بلد للكفر والإلحاد، قبل الغزو العثمانى، وليس بلد الأزهر منارة الدين الإسلامى، والتى دافعت بأبنائها عن الإسلام أمام زحف التتار والصليبيين، وهو تزوير وقح للتاريخ، وانتهاك صارخ لأنساب المفاهيم، لا يمكن قبوله.
المؤرخ المصرى الذى عايش الغزو العثمانى لمصر «محمد بن إياس» له كتاب يحمل عنوان «بدائع الزهور»، تضمن جرائم الاحتلال العثمانى، مؤكدا أن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى غنم أموالهم وقتل أبطالها ويَتمَ أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها.
ووصف ابن إياس، سليم الأول قائلا: «كان رجلا سيئ الخلق سفاكا للدماء شديد الغضب»، كما سطر ما قاله سليم الأول فى مجلسه: إذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة وألعب فى أهلها بالسيف.
ويقول ابن إياس: «إن العثمانية طفشت فى جميع الحارات والأماكن، وحطوا غيظهم فى العبيد والغلمان والعوام وغيرهم.. ولعبوا فيهم بالسيف، وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لا ذنب له، فصارت جثثهم مرمية فى الطرقات من باب زويلة إلى الرميلة، ومن الرميلة إلى الصليبية إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة.. فكان مقدار من قتل فى هذه الواقعة من بولاق إلى الجزيرة الوسطى إلى الصليبية فوق العشرة آلاف إنسان فى مدة هذه الأربعة أيام، ولولا لطف الله تعالى لفنى أهل مصر قاطبة بالسيف، كما أن جنوده كانوا يطيحون فى رأس المصريين بالسيف، متى رأوا أحد المماليك ضربوا عنقه حتى داخل الجوامع والمدارس والزوايا».
ويروى المؤرخ المصرى رواية أخرى للاستعباد الذى مارسه العثمانيون ضد المصريين، قائلا: «فى يوم اضطربت أحوال القاهرة، وصارت أرباب الأدراك تقف على أبواب المدينة ويمسكون الناس من رئيس ووضيع ويضعونهم فى الحبال حتى من يلوح لهم من القضاة والشهود، وما يعلم ما يصنع بهم، فلما طلعوا بهم إلى القلعة أسفرت تلك الواقعة عن أنهم جمعوا الناس حتى يسحبوا المكاحل النحاس الكبار التى كانت بالقلعة، وينزلون بها إلى شاطئ البحر.. وقاسى الناس فى سحبها غاية المشقة وحصل لهم بهدلة من الضرب والسك وخطف العمائم.. وصاروا يربطون الرجال بالحبال فى رقابهم ويسوقونهم بالضرب الشديد على ظهورهم».
ويخلص المؤرخ الرائع، ابن إياس، إلى حقيقة مؤكدة وهى أن سليم الأول وجنوده لم يأتوا للدفاع عن الإسلام فقد وصفهم قائلا: «قلة دين يجاهرون بشرب الخمور فى الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلى فى الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليل منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة».
ونسأل: هل هذه الجرائم الوقحة تسمى «فتح»؟ الحقيقة أن جماعة الإخوان، وما تروج له من مصطلح «الفتح» وإعادة ما يسمى الخلافة، هو سم قاتل للشعوب، وتدمير أوطانهم لصالح دول استعمارية، وليس بغريب عن هذه الجماعة التى ارتكبت كل الموبقات الدينية والأخلاقية والسياسية، وعنونت لنفسها: «جماعة خائنة».
ونقول إن الزمن قد تغير، ولا يمكن أن يعود للوراء، وجرى فى النهر مياه كثيرة، وأن الشعوب فى حالة يقظة، ولن تنطلى عليها خديعة الشعارات البراقة والمصطلحات الرنانة، ومنها مصطلح «الفتح»، فالأوطان العربية مسلمة، وفى القلب منها مصر التى توصلت إلى البعث والعالم الآخر قبل وجود دول على هذا الكوكب، وعلى التنظيمات والقوى التى تتبنى مصطلح «الفتح» نسألها: لماذا تتناسى أن هناك دولا تعربد فى المنطقة وتنتهك سيادة الدول المسلمة، ألا تستحق أن تُفتح؟، شعارات ممجوجة، وأطماع استعمارية مستعرة واضحة، لا لبس فيها!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة