كلُّ الأسباب التى أدَّت لإسقاط «بشَّار» كانت مُتحقِّقةً فى دولة حافظ: الشمولية، والبطش، والدخول فى لعبة المحاور الإقليمية. أسدٌ واحد، وغاباتٌ مُتباينة، والمآلات مُختلفة بطبيعة الحال.
والسؤالُ عن سِرِّ إزاحة الابن بالصورة الركيكة التى جرت قبل ثلاثة أسابيع، يستدعى أسئلةً مُتشابكةً عن ديمومة الأبِّ مع التناقضات نفسها، وكلُّها مفاتيحُ ضروريَّةٌ لفَهم السياق السورىِّ على وجهٍ سليم، وتحصين المرحلة، وضمان أن يكون الانتقالُ صافيًا من شوائب الماضى، وقادرًا على تجاوز عثراته.. لا تُدرَكُ الدُّوَل بالتمنِّى، كما لا تُؤخَذُ من الدنيا غِلابًا.
نِيّةُ البناء القويم أساسٌ لا بديلَ عنه؛ لكنَّ النوايا الحَسنة كثيرًا ما تُورِدُ أصحابَها فى المهالك. والأفعالُ مهما تخبَّطَتْ أهمُّ من الأقوال رغم استقامتها وبشائرها الورديَّة، والخطورة كامنة فى تقاطُعات العهد الزائل والبديل المقترح.
الثابتُ الأُصولىُّ يكاد يتطابقُ بين البعث وهيئة تحرير الشام، وكلاهما تحصَّن بالسلاح والرعاية الخارجية، ولا تخلو سيرتُه من تجاوزٍ فَجٍّ لدولة القانون والمواطنة. سجونُ النظام لها مُعادلٌ لدى المعارضة، والوصاية أيضًا، كما نزعة الاحتكار والاستبداد بالأمر. الوعود رافقت العائلةَ الأسديَّةَ من الولادة للسقوط.
وعليه؛ لا تُومَنُ تعهُّدات «الجولانى» اليومَ، ولا يُحتَجُّ على الرَّيبة بفائدة الشَّكِّ، أو بحقِّه فى الفرصة تحت لافتة التجربة والخطأ. الذاكرةُ موجوعةٌ ومُوجِعَة، والتداوى فريضةٌ لا فضيلة، أمَّا واجبُ التطمين فعلى عاتق الوريث، لا يلغيه سُوء المُورِّثُ، ولا تُسَكِّنه عذوبةُ اللسان؛ طالما ظلَّت النظرةُ للشعب على أنه تركةٌ تنتقلُ من مالكٍ لآخر.
عُقدةُ الشام الأَزليَّة أنَّ الأسماء لا تُطابِقُ معانيها. الحافظ ضيَّع الجولان واحتفل بالنصر، والبشَّار انقلَبَتْ بُشرَتُه سوادًا على البلاد والعباد، والخوف الجديد من ألَّا يكون «الشَّرعُ» مُنضبِطًا بإرادة الشارع، أكان على معناه الاجتماعى أم العقائدى.
أدخلَ الأُسودُ الفُرسَ، وتُدخلُ الضِّباعُ العُثمانيِّين، والصهيونيةُ مُشترَكٌ بينهما. الضرورةُ فتحت البابَ للبعث أن يتجاوزَ أرضَه السَّلِيبَة، ويُقدِّمَ التمكين للسُّلطة على واجب الاستقلال والتحرير.
وما كان طارئًا فى أوَّل السبعينيَّات امتدَّ لخمسة عقود، والشامُ الآن على مَوعدةٍ مع طارئ جديد، ستُزاحُ كلُّ الأولويَّات فيه لصالح بناء النظام، ثمَّ تُترَكُ مسألةُ الجغرافيا للزمن وحساباته المُعقَّدة.. دخولٌ من الباب نفسِه؛ وإن اختلفَ الداخلون.
عرفَتْ سوريا فى حقبة الاستقلال مَزيجًا من مُكوِّناتها فى واجهة السُّلطة، حضرَ الكُرد مع العرب، والشيعةُ إلى جوار السنة؛ حتى قرَّر أردأُ ضُبَّاط «البعث» أن يُؤَمِّمَ السياقَ لصالح الطائفة العَلويَّة. لم يستبعِد الآخرين تمامًا، ولم يُشرِكْهم كما يجب.
والثورةُ التى اندلعَتْ من الجنوب قبل قُرابة أربع عشرة سنة، ونشط فيها الدروز بقوَّة، احتُكِرَت لاحقًا لصالح طيفٍ واحد؛ لأنه كان الأكثرَ جاهزيَّةً لاستحقاقات الحرب الأهلية، وواكبته رعاياتٌ خارجيَّة بالعديد والعتاد.
أُزِيْحَ النظامُ العَلَوىُّ بكلِّ ما اشتُمل عليه من تلاوين هامشيَّةٍ، ويصعَدُ بديلٌ سُنِّىٌّ لم يستحضِرْ أىَّ لونٍ آخر بجواره حتى الآن؛ ولو من باب التطمين وتمهيد الأرض للحوار.
المعادلةُ القديمة يُنِيَت على تيَّارٍ مُهيمن، يَمنحُ ويَمنعُ وفق هواه، ويظلُّ فى مَتن الدائرة والباقون على هوامش مُحيطها. وما يحدثُ فى ورشة الحاضر، يُشبه ما كان فى سابقتِها؛ بينما البدايةُ الجادَّة أن تتكسَّر الدوائرُ أصلاً، وأن يجلس الجميعُ على طاولةٍ جامعة، لا أحد فى مركزِها، ولا غيره عند الأطراف.
عِلّةُ النظام القديم لم تَكُن فى شَخصَى حافظ وبشَّار. كلاهما تمثيلٌ عن حالةٍ سياسية مُنحرفة، استلبَتْ القرارَ وسطَّحَتْ القوى الاجتماعية لمنسوب الصفر. والحَفرُ العميق فى ميراث البعث والعائلة الأَسَديَّة، يكشفُ عن أصل الداء: الأيديولوجيا الزاعقة، والخطابات الكُبرى، وادِّعاء الطُّهرانية مُقابل نفيها عن الآخرين، مع افتراض أنهم الأُصلاء والأكثر قُدرةً وصلاحيةً لتمثيل المجموع، والنيابة عنه فى شؤونه.
تُضافُ لهذا تفريعاتٌ من اختلال الرؤية، وتضارُب الأولويَّات، وتسليح الجغرافيا لتكونَ أداةً فى صراعاتٍ إقليمية ودوليَّة، تتجاوزُ نطاقها المباشر، وتتخطَّى قُدرتَها على المُناورة والإفلات من الفِخاخ فى لُعبة الأمم.
وعليه؛ فالعائلةُ الأَسديَّة سببٌ أصيل، أو حتى وحيد، للأزمة الراهنة؛ لكنها كانت العَرَض لا المرض، والسَّير على ما سارت فيه قد يُكرِّرُ المأساةَ ذاتَها؛ إذ العُقدة فى الاختلالات البنيوية والمعرفية فى نسيج الشام. صحيحٌ أنها قدَّمت صورةً فاقعة لها؛ إنما لا ضمانةَ من ألَّا تُؤدِّى صُوَرُها الباهتةُ لنتيجةٍ شبيهة.
وأسوأُ ما يُمكن الذهاب إليه اليومَ: اختزالُ النصر فى الرأس، والتعامى عَمَّا يَستوطِنُ البَدَن.. التحرُّر يبدأ من الشخصىِّ ولا يكتملُ إلَّا بالموضوعىِّ؛ بمعنى الخلاص من جَوهر الماضى، دون الاكتفاء بظواهره فقط.
اتِّصالُ سِلسلَةِ العِلَل المُتوطِّنة يفتحُ شرايينَ الداخل على الخارج. فإذا كان الخللُ قديمًا وموروثًا؛ فلا يُمكنُ النظرُ لعبورِ الأبِّ وسقوطِ الابن كمسألةٍ داخلية خالصة، وكذلك الخلاص من رواسب الحقبتين أيضًا.
فارقُ المهارة الفرديَّة يصبُّ فى صالح رب العائلة الأَسَديَّة بالقطع، ورعونة الخليفة، بالنَّسَب لا الجدارة، لها دورٌ فى تقويض النظام من داخله؛ لكن لو شِئنا التمثيلَ فالجولانى أقربُ لبشَّار من حافظ، عُمْرًا ووَعيًا وحداثةَ تجربةٍ، وفيما يخصُّ الأوضاع الجيوسياسية، وتوازُنات قوى المنطقة والعالم. وإن كانت إحدى التجربتين مُرشَّحةً للتكرار؛ فإنها الأخيرةُ لا الأُولى.
غادرَ الرئيسُ ولم يَرحَلْ بعد؛ بمعنى أنَّ تأثيراته ما تزالُ حاضرةً بقوَّة. ماديًّا يصعُب الفِّكاك من احتمال أن تنفُخَ بقايا النظام شيئًا من نار الغضب والهزيمة، ومعنويًّا يقعُ القادةُ الجُدد تحت سطوة العهد الآفل؛ بقَدر ما يعجزون عن استيعاب السياق الجديد.
يحتاجُ الآتون من غياهب الأُصوليَّة والإرهاب وقتًا للاقتناع بأنهم صاروا حُكَّامًا. والنصرُ السريع قد لا يُعوِّضُ شُعورَهم بالضآلة لسنواتٍ بالسرعة نفسِها. وإن افترَضوا أنهم أزاحوا السُّلطةَ بقُدراتهم الذاتيَّة؛ فقد تأخذهم النشوةُ نحو الاستبداد وابتلاع المجال العام، ولو تَحلّوا بالموضوعيَّة سيَنسبون الفضلَ للمظلَّة العُثمانية، وما واكبها من توافُقاتٍ إقليميَّة ودوليَّة، خَفيَّة وظاهرة، ووقتَها سيتَّخذون مِمَّا وراء الحدود مَرجعيَّةً لتأسيس البيت ورفع دعائمه، وسيقيسون قراراتهم على مقياس القَبول من الرُّعاة وحُلفائهم، بدلاً من الاحتكام الحصرىِّ للداخل.
وفى الحالين؛ تَنُمُّ الوَصفةُ المُحتمَلَة عن مسارٍ قد يُغَيَّبُ فيه الشعبُ، قهرًا أو بنعومة، وقد تُستَخدَمُ فيه كُلُّ الوسائل المُمكِنَة والمُصطَنَعة لتمرير الأجندة المطلوبة، أكان تحت سقف الضرورة الوقتية، أو بترقية الدعايات واستثمار التشغيب المُحتَمَل؛ لردع الورشة الاجتماعية عن التفاعُل غير المُؤطَّر، وإنتاج مُقارباتٍ وطنيَّةٍ تحضرُ فيها قيادةُ العمليَّات العسكريَّة طرفًا بين مُتساوين، لا حَكَمًا عليهم وبينهم، ولا أبًا رُوحيًّا للشام المأمول.
خُلِعَت عباءةُ «الجولانى»؛ لكنه لم يُدفَن بعد، وبرزَتْ ملامحُ «الشرع» ولم تكتمل ولادته. نحن إزاء نسخةٍ سياسيَّة ميليشياوية من «دكتور جيكل ومستر هايد»، ويحضُر الرجلُ بالوَجهين بين وقتٍ وآخر.
حينما يجلسُ مع الفصائل المُسلَّحة من نفس اللون؛ فهو الأميرُ القاعدىذُ المُتنقِّل داخل العائلة الجهادية، وعندما يتحدَّثُ عن الحوار والعقد الاجتماعىِّ يكونُ الحاكمَ المدنىَّ البراجماتىَّ.
الوقتُ ضَيِّقٌ ولا يسمحُ بتَوصيفٍ قاطع؛ لكنَّ نُسخَتَه القديمةَ تُنتجُ أفعالاً ولو كانت بطيئةً ومُؤدلَجَة، بينما وجهُه الجديد يتكلَّمُ فقط، ويُوجِّهُ رسائلَ ساخنةً تجاه الأكراد قبل أن يُفكِّرَ فى لقائهم.
يُسمِعُ الأتراكَ ما يُحبِّون سماعَه بشأن قوَّات «قسد»، ولا يقتربُ من حديث التحضيرات الجارية شمالاً لعمليَّةٍ عسكريَّة شرقىِّ الفرات؛ كأنه يُغطِّى ما لا يُمكن اعتبارُه لاحقًا سوى عدوانٍ على الأرض السورية؛ مهما كانت المُلاحظات على مظلوم عبدى ودعاوى الفيدراليَّة.
دمشق الآن مُثبَّتةٌ على صليبٍ مُتضادّ الأطراف، واشنطن غربًا وموسكو شرقًا، والصهيونية والعثمانية يتجاذبان الخريطة من الجنوب والشمال.. الحيادُ الكاملُ مستحيل، والاقترابُ من واحدٍ قد يستثيرُ آخرين، كما أنَّ التوازنَ الدقيقَ فى المرحلة الحالية قد يُثَبِّتُ أوضاعًا تستعصى على التفكيك لاحقًا.
والإدارةُ الجديدة مُلزَمةٌ بتجسيد مصالح السوريِّين الجماعية، بقَدر ما تسعى لمصلحتِها الخاصة أو أكثر. وهكذا تبدو المُعادلةُ مُركَّبةً وشديدةَ الإرباك؛ إذ قد يُحسَبُ كلُّ سلوكٍ من جانبها على معنىً غير ما تبتغيه، وقد يَنُمّ مجموعُ سُلوكيَّاتها مع كلِّ الأطراف عن براجماتيَّةٍ تتصادَمُ مع ثوابتِها الأيديولوجية، ولا تُطمئِنُ الشارعَ بشأن المستقبل.
الغايةُ النهائيَّةُ أن يكون الوطنُ مَدنيًّا حرًّا وعادلاً بين جميع أبنائه، بينما ظِلُّ الأُصوليَّةِ ثقيلٌ، والتحرُّر خاضعٌ لتوازُنات القوى الحاضرة والمُهَيمِنَة، أمَّا الدولةُ العادلة فلا يُعرَفُ إلى الآن كيف تَنبُت من طينة الميليشيا، وهى بدورِها لا تُقدِّمُ أىَّ اقتراحٍ مُتماسكٍ فى هذا الشأن.
مفهومٌ أنَّ الإلحاحَ الأكبر حاليًا فى تأمين الجبهة الداخلية، وضمان انتظامها وفقَ أقصى حدٍّ مُتاحٍ من الأمن والانضباط وسُيولة المهام اليومية؛ لكنَّ إشراكَ بقيَّة المُكوِّنات فى المشهد لا يكتسِبُ أهميَّةً على الصعيد السياسى فحسب؛ بل له مَردودٌ أمنىٌّ مُباشر، من جهة ترشيد خوف الناس من المستقبل، وانخراطهم الموضوعىِّ فى العهد الجديد.
الحاضنةُ المُتماسِكة ضمانةٌ من أىِّ انحرافٍ، ورَدعٌ استباقىٌّ له. وتهشيمُ الإجماع قَصدًا أو اعتباطًا قد يُوفِّرُ بيئةً مثاليَّةً للفوضى، صامتةً عليها إن لم تَكُن مُتصالِحةً معها، وقد تتطوَّرُ لاحقًا إلى المشاركة فيها؛ حالمًا يتباطأ الإصلاح وتتبدَّدُ الآمال.
التصدِّى للمخاطر يبدأُ من حصارها اجتماعيًّا، لا بالسلاح ولا بالاستثمار الدعائىِّ؛ إذ السلوك الأخير ربما يكشفُ عن رغبةٍ فى اتِّخاذها ساترًا لأهدافٍ خَفيَّة، وتغطيةِ سلوكيَّاتٍ استتباعيّة واستثثاريَّة، تُبرِّرُ التراخِى فى هندسة القاعدة التشارُكيَّة للنظام البديل.
الأيَّامُ الأخيرةُ شهدَتْ اشتباكاتٍ ساخنةً فى حمص والساحل، وتظاهُراتٍ غاضبةً مُنِحَتْ صِفَةً طائفيَّةً فى اللاذقية وطرطوس وبانياس وحماة ودمشق وغيرها. وبقدر ما فيها من شُبهاتٍ ومآخذ؛ فإنَّ التعمية الإعلامية على كثيرٍ منها تُثير الشكوك.
يُمكِنُ القَول إنها فلولُ النظام البائد، أو إلحاقُها على رسائل مُتواترة من كلِّ المستويات فى إيران، بشأن الشرف والمقاومة والتصدِّى للأجندة الصهيو-أمريكية؛ لكنَّ الأصعب والأَوْلَى أن يُعترَفَ بغَلَبة النكهة الطائفية على الإدارة الجديدة وحكومتها، وأنَّ هذا ما يُغذِّى أيّة نَزعةٍ تأجيجيَّة كامنةٍ فى الداخل، أو يُحرِّكُها الخارج.
الشرعيَّةُ الوحيدة حتى الآن عنوانُها الثورة، لكنَّ الفاعلَ فيها ميليشيا بعَينها من زمن الحرب الأهلية، وما لم تُشَقّ طريقٌ سريعةٌ نحو المشروعيَّة الشعبية الكاملة؛ فإنَّ النزاعات قد تتطوَّرُ لمواجهاتٍ عِصابيَّة لا صِفَة قانونيّة لأطرافها، وقد تتجدَّدُ الحربُ فى ظل حالةٍ «لا نظاميّة».
يزدَهِرُ التفسيرُ بالمُؤامرة فى سياقٍ كهذا؛ لكنه قد يكون استخفافًا من قَبيل التبسيط، لا لإنكار أنَّ ثمَّة مُتربِّصين بسوريا وتجربتها، ولكنْ لأنه يُوظِّفُ العارضَ فى إزاحة الأصيل، ويَكنِسُ تُرابَ الواقع تحت سجَّادة الدعائيَّات السهلة.
ولا حاجةَ للتذكير بأنَّ شُبهةَ التآمُر تُلاحق هيئة تحرير الشام نفسَها، وليس مقطوعًا حتى الآن بأنّها وصلَتْ من إدلب لدمشق فى عشرة أيَّامٍ بقوَّة سواعدها، أو نقاوة مبادئها الثورية، وليس بتوافقاتٍ من وراء الستار، ارتضت إزاحة النظام بأعبائه، وتراضَى فيها المُتصارعون على أقلِّ الخيارات كُلفةً وإشعالاً للإقليم، أو هكذا تصوَّروا.
ومن الغباء افتراض أنَّ الإجماع على عداء «بشَّار»، يُغطِّى على العداوة الواسعة للميلشيات، ولو لم يُصَرَّح بها لاعتباراتِ الضِّيق من الحُكم السابق، أو الخوف من اللاحق.
فى النهاية؛ الجولانى ليس جيفارا ولا مانديلا، وخصومُه أكثرُ من داعميه، وما كان مطلوبًا من الأسد لامتصاص فائضِ الغضب لدى المناوئين، على خليفته أن يُقدِّمَ أضعافَه لمُجرَّد إثبات أنه يحترمُ البديهيات بشأن الدولة والقانون والمواطنة، وليس نائبًا عن آخرين، أو يُوظِّفُ إمكانات سوريا النظاميّة؛ لتحويلها إلى ميليشيا كبيرة، تحت علمٍ وعاصمةٍ وظِلال مُؤسَّسات.
نجح الأسدُ الأب لثلاثة عقودٍ؛ لأنه كان ماهرًا فى التوازنات. ابتلعَ سوريا رغم خروجه مهزومًا فى يونيو 1967، وتنافسَ مع النسخة العراقية من البعث على أرضيَّةٍ مذهبيَّة؛ لكنّه غطَّاها بالأيديولوجيا والمُزايدات القَوميَّة. دعمَ إيران ضدّ صدَّام ولم يُسلِّم قِيادَه للخمينى، وتفاوضَ مع القوى الكُبرى؛ فلم يخسر وضعيَّته الإقليمية، وفاز بالوصاية على لبنان فائضًا فوق الميزان.
أمَّا الابنُ فكان على النقيض تمامًا. مَرَّر الإرهابيِّين إلى العراق فاكتسب عداوة واشنطن وسلطات بغداد الجديدة، واستأسد على الحضور السُّنىِّ فى بيروت فوق أشلاء الحريرى؛ فاضطُرّ لمُغادرتها، وأخطأ فى حسابات القُرب والبعد من طهران، إلى أن صار مُجرَّد صورٍة فى عاصمة الأُمَويِّين.
ربما ظُلِمَ بوَضعِه فى مكان لا يمتلكُ مؤهلاته، أو كان مدفوعًا بهاجس أنه خيارٌ بديل لا أصيل، فاستمات فى إثبات أنه ليس أقلَّ من حافظ، وقطعًا أفضلُ من «باسل» فى مقبرته؛ والنتيجة أنه نكَّل بالدولة وميراث العائلة. وعادى الشقيق، ولم يَكُن ذا كرامةٍ لدى الصديق.
كان الصراعُ ثنائيًّا بين الدولة والثورة، وفى داخل كلٍّ منهما تفاصيلُه المُعقَّدة: الأُصوليَّة والشُّموليّة، البطش المُقَونَن والسلاح المُنفلت، وتدخُّلات الخارج مع الطرفين. اليومَ؛ تفكَّكت الكُتلةُ إلى ثنائيَّاتٍ مُستقلّة ومُتشابكة: الدولة والميليشيا، المَدنيَّة والرَّجعيّة، خِفَّة السُّلطة وهشاشة المعارضة، موسكو وواشنطن، طمع أنقرة وانتقام طهران، وتغوُّل الصهيونيَّةِ مَرّةً لصَدِّ الشيعية المُسلَّحة، ومرَّةً للاستدراك على العُثمانيَّة المُتمرِّدة على ميراثها الأتاتوركى.
والشارعُ لا يَعنيه من كلِّ هذا إلَّا التحويط على الخريطة، واستيلاد نظامٍ لا يميلُ لطرفٍ ضِدَّ آخر؛ كى لا يسقطُ بين نابٍ ومخلب. والأكيد أنه لا يريد الانخراط فى نزاعات المحاور؛ بما يخصمُ عقودًا إضافيَّةً من عُمر سوريا، أو يُضيِفُ سنواتٍ لنَكبتها.
وإذ يتعذَّرُ على المجتمع، فى سِيولَتِه الراهنة، أنْ يفرضَ رُؤاه على المجال العام، أو يُنتِجَ تصوُّرًا إجماعيًّا للخروج من المحنة؛ فإنَّ المهمَّة تبدو مَرهونةً لإرادة «الجولانى»، بكلِّ تقاطُعاته مع العِلَل سالفة الذِّكر، بينما يُواجِه تركيبًا مُعقَّدًا فى بيئته اللصيقة، بين تحالُفٍ فصائلىٍّ هَشّ، ونزاعاتٍ أيديولوجية ما زالت مُضمَرة، ومَواريث قديمةٍ لا يُمكن التنبّؤ بمَصيرها، ولا كيفية تصفية ديونها الثقيلة.
من ناحيةٍ، يُمكِنُ أن تنظُرَ تيَّاراتُ الأُصوليّة خارج الحدود للسلطة الجديدة على أنها مَندوبٌ عن مشروع الربيع العربىِّ المُعطَّل، ما يستوجِبُ الدَّعمَ والاحتضان. وقد تحقَّقا فى الرعاية العثمانية، وفى فرحة الإخوان بالحُكَّام الجُدد.
وعلى ناحيةٍ مُقابلة؛ كان الجولانى ناشطًا لدى داعش والقاعدة، وعليه بَيعةٌ قديمة لكليهما؛ صحيحٌ أنه نَقضَها من طَرَفه؛ لكنَّ الآخرين قد يرونَها من وجهٍ آخر. يُمكِنُ تفسير سُلوكه الانشقاقىِّ بالخروج على الجماعة، وقد يُقارِبُ الرِّدّة فى فِكر البعض، مع ما يُضافُ من عَمَلِه ضدّ التيَّارين، وبهذا يتداخلُ احتمال الدعم مع مخاوف الثأر.
والمعنى؛ أنه قد تتلاقى نوايا التنظيمات الإرهابية مع رغبة إيران وفلول النظام فى التشغيب، بينما تُدارُ بقيَّةُ الفصائل من الأناضول، فتعلو مخاطرُ تصفية الحسابات بين أطيافِ الراديكالية الدينيَّة، بالوكالة عن مشروعين امبراطوريّين: صَفَوىٍّ شِيعىٍّ، وعُثمانىٍّ سُنّى.
يحتاجُ «الجولانى» لاعتراف العالم؛ لهذا يُظهِرُ جانبًا من وَجهِه ويخفى الآخر، والخَفِىُّ يُزعِجُ مُجتمَعَه ويتسبَّبُ فى توتُّراته؛ بأكثر مِمَّا يُطمئنه الظاهر.
التضحيةُ بالأَصل العقائدىِّ قد يَفُضُّ دائرتَه الداعِمَة مُبكِّرًا، والحفاظ عليه ربما يُؤخِّرُ القبول ومَنحَه الصِّفَة الشرعيَّة. والقُدرة على تمرير الوقت بين الخيارين، يَحكمُها أنْ يظلَّ الشارعُ باردًا، وعلى وفاقٍ مع السلطة الجديدة.
وهكذا؛ يحتاجُ لأن يُقدِّمَ أشياء ماديَّةً ملموسةً للقوى الداخلية؛ لكن تقديماته قد تُؤلِّب عليه الفصائل أو تستفزَّ الراعى العثمانى، كما أن الإغراق الكامل فى أجندته سيرفعُ حرارة البيئة المُحايدة، ويُعزِّزُ تحفُّظات المنطقة والعالم.
والمَخرَجُ الوحيد؛ أنْ يُلقِى الكُرةَ للطَّيف السياسىِّ الواسع. ولن يفعل غالبًا؛ لأنَّ بناء النظام من أسفل فى السياق الراهن، قد يُخرِجُه من المشهد تمامًا، أو على الأقلِّ لن يضمَنَ له وضعيَّةً مُمَيَّزةً ومُهيمنةً على مقاليد الأمور.
لم تكتمِلْ الثورةُ بعد؛ لأنها لم تَبنِ نظامًا توافُقيًّا بديلاً، والدولة ضائعةٌ فى زحام دَمجِها مع الأُصوليَّة المُسلَّحة بالفقه والبنادق، ومع خطورةِ الانحراف من مَأسَسَة الميليشيا إلى «مَلشَنَة» المُؤسَّسات.
السياسةُ الخارجية، لا الداخلية، كانت محورَ المُعضلة السوريَّةَ طوال الوقت، وهذا ما يُفسِّرُ استمرارَ الأسد الأب بكلِّ تناقُضاته، وسقوط الابن؛ رغم حفاظِه على هياكل النظام وسياساته المحليَّة.
والفخُّ نفسُه يقعُ فيه «الجولانى» اليومَ، ولا فارقَ بين أن يكون مُرغَمًا أو مُختَارًا؛ فالمُحصِّلةُ أنَّ وعود الداخل لن تعصِمَه من فواتير الخارج، بينما العناصرُ كُلُّها على حالها، وأجندة الأناضول لا تختلف عن أجندة فارس.
سايكس بيكو التى يَهجوها القَوميِّون والأُصوليِّون بلُغةٍ مُتشابهة، أنتجَتْ الدُّوَل الوطنيَّةَ ولم تُقَسِّم المنطقة؛ إذ كانت مُقسَّمةً عِرقيًّا وطائفيًّا أصلاً تحت ولاية الباب العالى.
حاولَتْ طهران أن تُعيدَ تجميعَها بصَمغ التشيُّع والمُمانَعة، وتحاول العُثمانيَّةُ الجديدة أن تُعيدَ إنتاجَ نفسِها بعدما تجاوزَها الزمن، بينما الخروجُ من الأُولَى لا يتحقَّق بالثانية، والصِّفَة الأطلسيَّة للثانية لا تَعصِمُ بالضرورة من مصير الأُولى.
التكيَّفُ الغَربىُّ السريع مع الجولانى يتَّصل بخيط الناتو المُمتدّ لأنقرة، مُقابل وضعيَّة «الخصم المارق» مع الجمهورية الإسلامية، لكنه تناقُضٌ ثانوىٌّ فى الحقيقة بين أُصوليَّتين من جوهرٍ واحد؛ ولو اختلفت مظاهرهما. بينما التناقُض الأساسىُّ يُفترَضُ أن يكون بين الأُصوليَّة والمَدَنيَّة، وبين الدولة والميليشيا، كما بين الاستقلال والاستتباع، على أيَّة صِفَةٍ ولون كانت التَّبَعِيَة.
استقبالُ الوفود الغربية يُقدِّمُ صورةً مقبولةً للنظام الجديد، وفَتحُ الشام للإخوان وغيرهم من الأُصوليِّين يُرسِلُ إشاراتٍ خاطئةً وشديدةَ الخطورة.
ينبغى أن تكون دمشقُ، اليومَ وغدًا، رصيدًا للدولة الوطنية؛ لا مُجرَّد حلقةٍ فى مشروع تعويم الإسلام السياسى، أو إعادة بثَّ الروح فى التجربة، بعدما سقطت بتكاليف باهظة فى بعض العواصم، وبحروبٍ لم تنطفِئ حتى اللحظة فى بَقِيَّتِها.
وقُدرةُ السلطة الجديدة على إنجاز المهام المطلوبة؛ ستتحدَّدُ بمقدار ما تُنجزه فى سياستها الخارجية، بأكثر مِمَّا تنجحُ فى إقناع الداخل به، أو فَرضِه عليه.
مات الأسدُ الكبير، وهرب الصغير؛ لكنَّ العِلَّةَ ما تزالُ كامنةً تحت جِلد الشام. وحتى الآن يُختَزَلُ الانتقال فى استبدال الرُّعاة مع بقاء صيغة الوكالة؛ وكأنه انقطاعٌ عن ظواهر الماضى، لا عن جوهره ومُحرِّكاته العميقة، وهو ما يُوجِبُ التشاؤمَ أوَّلاً، والتحذيرَ ثانيًا، والتحضُّرَ لاحتمالاتٍ سيِّئة فى كلِّ الأحوال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة