وسط حالة عدم اليقين، والخوف والرعب المسيطرين على غالبية السوريين من مستقبل قريب وبعيد، وما يحمله من ضبابية، وفوضى، وحالة احتقان بين الطوائف والقبائل، بدت سريعا، وأسرع مما توقعه أكثر المتشائمين، والذين يتمتعون بخيال خصب لكتابة سيناريوهات درامية تتطابق مع الواقع، ما يدفع بسوريا للدخول فى أنفاق شديدة الظلام، تناسى الجميع، كارثة أخرى، يمكن أن تقلب ديموجرافية سوريا رأسا على عقب، وهى تفجير مبنى الإدارة العامة والهجرة والجوازات بدمشق.
ففى 8 ديسمبر الجارى، وهو يوم سقوط نظام بشار الأسد، سارعت إسرائيل باستهداف المبنى، ولا عجب من هذه السرعة المفرطة فى استهداف المبنى، ووضعه من بين الأهداف الاستراتيجية جنبا إلى جنب مع الأهداف العسكرية، ذات الأولوية القصوى فى التدمير، كون أن المبنى يمثل ذاكرة الشعب السورى بما يضمه من قاعدة البيانات الشخصية والعائلية لكل السوريين.
ولم يقف الأمر عند حد تدمير مبنى الإدارة العامة والهجرة والجوازات بدمشق، وإنما امتد لإحراق مبانى السجل المدنى فى حماة، وسجل دير الزور، وقسم الهجرة والجوازات فى مدينة السويداء، ومدن كثيرة أخرى أُحرقت سجلاتها، بجانب تدمير السجلات فى المؤسسات الأمنية والمطارات، والعبث بسجلات النفوس والسجلات والوثائق العقارية والأراضى والأدلة الجنائية وأرشيف المحاكم والسجلات التعليمية إلى آخر هذه الوثائق.
الأمر الأخطر، ويؤكد أنه مدبر من أجهزة أمنية أجنبية، أنه قبل احتراق مبنى الإدارة العامة والهجرة والجوازات بدمشق، اُكتشف أن «الهاردات ديسك» وهى وحدة التخزين الأساسية فى الكمبيوتر، ووظيفتها التخزين الضخم للبيانات وحفظ الوثائق، قد اختفت، وبالأحرى «سُرقت» والآن هناك استغاثات من موظفين ومسؤولين بالإدارة العامة للهجرة والجوازات، تطالب الذى سرق «الهاردات ديسك» بإعادتها نظير مبالغ مالية كبيرة، مع الوعد بالعفو عنه، لما تمثله هذه «الهاردات» من أهمية قصوى فى حفظ ومعرفة أنساب السوريين.
انطلاقا من هذه النقطة الخطرة، يتبين مدى فداحة إحراق الوثائق فى سوريا، ونتائجها الخطيرة فى خلط الأنساب وخلل الهوية، وإمكانية زرع جواسيس فى مفاصل الدولة، يدينون بالولاء لأجهزة أمنية أجنبية، يحملون أوراقا رسمية تثبت أنهم سوريُّو الجنسية، ما يسهم فى خلق فوضى «أنساب» مستقبلية، وأن استهداف إسرائيل لمبنى الإدارة العامة للهجرة والجوازات، خطة جهنمية، مدروسة بعناية.
والتاريخ يعيد نفسه، فهل ننسى واقعة الجاسوس الإسرائيلى اليهودى «إيلى كوهين» والذى زرعه الموساد فى سوريا سنة 1961 واستمر حتى 1965 منتحلا اسم «كامل أمين ثابت - مسلم الديانة»، حيث أقام علاقات وثيقة مع نخبة المجتمع السياسى والعسكرى، وصار اسما نافذا فى المجتمع السورى، ومطلعا على كل الأسرار والقرارات التى كانت تُطبخ فى مطبخ صنع القرار السورى، ولولا قدرة المخابرات المصرية التى اكتشفت أمره وأبلغت نظيرتها السورية، لاستمر «إيلى كوهين» يؤدى دوره وربما كان قد تبوأ مكانة سياسية بارزة فى سوريا، وأُلقى القبض عليه وصدر ضده حكم بالإعدام، ونُفذ القرار.
سيناريو «إيلى كوهين» سيعاد هذه الأيام، ولكن فى شكل آلاف الجواسيس، وبأوراق ووثائق ثبوتية رسمية، شديدة الدقة، وأن احتراق مبنى ذاكرة الأمة السورية، سيُصعب من مهام اكتشاف هؤلاء الجواسيس، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن «إيلى كوهين» كان قد تلقى تدريبا فى الموساد قويا على إتقان اللغة، وظهر فى عنفوان الدولة السورية وقدرتها الأمنية الكبيرة، ومع ذلك نجح فى اختراق النخب السياسية والعسكرية باعتباره سورى الجنسية، فماذا عن زرع الجواسيس فى الوقت الحالى فى ظل سيولة أمنية مفرطة نتيجة غياب تام للمؤسسات الأمنية، والعبث بالوثائق الثبوتية والعقارية والأمنية والقضائية وحتى التعليمية؟!
المعلوم بالضرورة ودون الاحتياج لشرح وتفسير الخبراء والعباقرة، أن الجنسية تعتبر جزءا لا يتجزأ من سيادة الدولة، وأن التزوير والعبث بملف الهوية الوطنية خطر داهم يهدد أمن واستقرار الدول، ويُعقد التركيبة السكانية، وتُنتهك أنسابه، بالاختلاط الورقى.
الأمر جل خطير، وأن العبث بأمن وأمان الأوطان، جوهره إحداث خلل مفرط فى التركيبة السكانية، ولا يمكن أن ننسى، ما حدث عقب أحداث يناير 2011 فى مصر وما استتبعه من انفلات أمنى صارخ، حيث سُرقت ماكينة لطباعة الرقم القومى من مديرية أمن شمال سيناء، واستخدمت فى طباعة الآلاف من بطاقات الهوية لغير المصريين تمكنوا بواسطتها من دخول البلاد.
وبحسب تأكيدات مصادر أمنية فى 2013 أى بعد واقعة السرقة بسنتين، فإن اكتشاف فقدان الماكينة جاء بمحض الصدفة، بعدما تشككت أجهزة الأمن المصرية فى هوية شخص يحمل بطاقة رقم قومى مصرية، خلال عبوره أحد المنافذ الأمنية بشمال سيناء، قادما من قطاع غزة، وهو ما ربط على نحو مباشر بين سرقة ماكينة الطباعة بعد الثورة، وظهور تلك البطاقات مع عناصر نجحت فى الدخول إلى البلاد خلال فترة الانفلات الأمنى.
ولا يمكن أن ننسى أيضا حريق المجمع العلمى، واقتحام مبانى الأمن الوطنى وحريق الأقسام، وواضح أن السيناريو واحد، القضاء على ذاكرة الأمم، والعبث بهويتها، لكن - والحمد لله - كانت الأجهزة الأمنية بكل مشاربها، يقظة ومستبسلة فى حفظ الوثائق.
ومن خلال هذا السرد، فإن على كل مصرى أن يشكر الله، على نعمة الأمن والأمان، واستقرار الدولة، فما يحدث فى سوريا من فوضى وتناحر مبكر بين الفصائل، علاوة على كارثة تدمير الوثائق، وما يترتب عليها من خلط شديد فى الأنساب، وزرع الجواسيس فى مفاصل الدولة، سيناريو يصنع دراما حزينة وكئيبة لمستقبل مظلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة