لن تنسلخ الكلمة عن محيطها وإن انغمس الإنسان فى عزلة ذاتية، واكتفى بالانزواء فى زاوية بعيدة، فثنائية التأثير والتأثر لا تنفك هى القاهرة فى تشكيل الذات واللاعب الأساسى فى زيادة منسوب الذاكرة - هبوطا وصعودا -، ومع أن أدوات الاتصال تطورت وصار بإمكان المرء أن يعيش فى مكان قصى عن التجمعات، غير أن المجتمع ليس بعيدا عنه، لأنه يتفاعل معه فى فرحه وترحه، وفى مستجداته وما يحدث، سواء كان بعيدا أو قريبا، وليس هناك اليوم من بعيد، غير أن التفاعل وفق القرب والبعد، والسؤال الذى يشتغل بين يدى المتأمل هو: هل للمعنى وجود خارج الزمكان.
من الممكن القول: إذا كانت المفردة خارج البناء ليس لها معنى فإن الجملة خارج الزمكان ليس لها حيثية لغوية أيضا، فالكلمات مثل رجل / يد / أبيض / أسود/ ليس لها وجود تام خارج الجملة، ويمكن القول أيضا أن الجملة خارج الزمان والمكان ليس لها معنى مثل خرج محمد، البيت جميل، المدرسة واسعة، الحديقة غناء، وسيتبادر إلى ذهن المتلقي من محمد؟ ومتى خرج؟ومن أين خرج؟، وهذه الاسئلة ستجري على كل الجمل المذكورة.
وإذا الكلمات التي أتت دون سياق لغوي ومقامي ولم تؤد إلى معنى ذي مغزى سوى أنها أسماء أجناس في مكان ما فإن الجمل أيضا ستكون مجهولة الحال دون مقام. وقد عنيت البلاغة العربية ببلاغة المقام، لأن الخطاب يأتي على قدر العقول، وربما عاد ذلك إلى أن الخطابة أو الشعرية تصدر من أعلى الناس فصاحة وعقلا، والذي يمثل في زمانه عقلانية واسعة وصفاء ذهنيا ذا بال وذا حيثية، وستزاحم فكرة المنبر المرتفع، ذلك المنظر الذي يلحظ الشأن الكبير الذي ينم عن مستوى راق من مستويات التعبير، وينطوي على معرفة وصناعات.
وعادة يكون الخطيب يكون في أبهى مظهر ويصدر إلى الناس في وقار واعتداد بالنفس ،وسيتوقع المتلقي، أنه يتلقى جملا مفيدة ومقنعة، ويعتد بها، وستكون إعرابا عن موقف تجاه قضايا مختلفة. ولقد احتشد الجاحظ قديما مبينا أهمية هذا المعنى وهو تعملق المتكلم لدى المتلقي على مستويات الصدق وحسن المنطق والمظهر اللائق فقال : فإن كان المتكلم خليلا للسامع أو عظيما في عينه، زاد كلامه حسنا على حسن، وقال : وقد يكون عيب المنطق من نقصان العقل وقد يكون من جهل بالعادة أو ترك الأدب.
لكن الذى لم يكن فى تأمل المتلقى - ربما - كيف يفكر الخطيب أو الشاعر أو الأديب، ولعل هذا الموقف تأثر ببعض النصوص أو أساء فهمها مثل هذا النص الذي يقول : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، ويفهم من هذا النص هو محاولة إدراك المزية من النص دون البحث في النوايا، وهذا النص لا شك أنه مرتبط بمناسبة، وهذا مجلى من مجالي التسامح الذي ينم عن التلقي في حسن نية عند الامام علي ع، ولا شك أنه في مقام آخر استخدم نصا ينقض إطلاق النص المتقدم وهو ( كلمة حق أريد بها باطل ) وهذا النص يجعلنا نتأمل في مصدر النصوص الذي يقتضي مواقف معينة تجاه قضايا مخصوصة.
ولكن هناك نصوصا تُغنى بمنتج النص، وتجعل الأهمية فيه وتتخذه ركنا ركينا للفهم مثل ( المعنى في قلب الشاعر ) والذي يجعلنا نبذل جهدا جادا على مستوى محاولة الفهم في دقة أقرب إلى التناهي، ولا ينقض هذا النص النص الآخر الذي يقول : علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا …
وهذا حث على ممارسة التأويل من خلال تأمل جاد فيما قيل، وستلعب النصوص التي تحمل مفهوم الاعراب- أو ما يؤدي اليه- درجة من درجات العناية بالمتكلم، مثل الإعراب فرع المعنى، والعامل للمتكلم - كما يقول ابن جني - وقال سيبويه : واعلم أن الأصل يحمل على نية المتكلم به . وقال عبد القاهر : النحو في الكلام بمنزلة المعاني في النفس وقال الجاحظ : الكلام بيان على نية المتكلم، - ثم أضاف عليها - ودليل على حاله، لكن مسافة العبور إلى جزر المعنى في النفس، عملية شاقة وتحمل جهدا، وربما تفضي إلى أكثر من وجه.
١-٢
ومن حيثيات البناء على مستوى الجملة، فإن المناسبة التي تقتضيها دلالة الكلمة - معجميا - وقد يراعى فيها منطق الأشياء مثل عدم قبول لفظ ( افتحوا لي سيفي ) وهو الذي أنكره عبد القاهر على ابن زياد؛ لأن السيف يخرج.. يسل ولا يفتح، ولأن الفتح ربما يقتضي فتح حرز ما أو باب ما، لكن السيف ليس محرزا بحرز أو مغلق بباب، ومن هنا كانت مفردة عبيد الله بن زياد مفردة غير فصيحة وركيكة - سياقيا-، ومنها على سبيل التمثيل ( السماء تحتنا) - كما يمثل بها أحد العلماء - فإن منطق الأشياء يقتضي أن تكون السماء في الأعلى، غير أن القرآن الكريم يقول : الآية التي ورد فيها تعبير مشابه لمفهوم "قلبنا عاليها سافلها" موجودة في سياق الحديث عن عقاب قوم لوط، وهي قوله تعالى:
"فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ"
(سورة هود: 82)
تفسير الآية:
• "جعلنا عاليها سافلها": يُشير إلى أن الله سبحانه وتعالى قلب القرية رأسًا على عقب عقابا لأهلها.
وهنا لعب المجاز دورا حاسما في فك عرى الالتحام بين الدال والمدلول، وحال ذلك دون ارتباط المعنى المراد من السماء إلى معنى جائز آخر، أو حين نصف انقلاب الحال إلى طليعة قوم وأنهم كسماء المدينة أو القرية رفعة، ثم انزووا وآلت أمورهم إلى التقهقر والتراجع اجتماعياً فتقول: صارت سماء القرية تحت أقدامنا .
أو كما تقدمت الجملة ( ويمثل أحد العلماء بتلك اللفظة) وهي تعني التمثيل بالمثال الدال على ظاهرة ما، ولكن الرسول يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور وهي تعني التنكيل، ويقال فلان مثل بعدوه أي نكل به مثل جذ أنفه أو اقتلع عينه بعد قتله ،.
ويمكننا القول- تأسيسا على ما سبق أن المجاز قادر على فك عرى المناسبة واستبدالها بين الدال والمدلول على المستوى المعجمي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة