تبدو المستجدات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة، في حاجة ملحة إلى قدر من الإدارة الجماعية للأزمات، مع تواترها، وتصاعدها، بوتيرة متسارعة، بالإضافة إلى طبيعتها المختلفة، إذا ما قورنت بما شهدته المنطقة في العقود الماضية، جراء التشابك العميق بين الصراع في صورته البينية، وهو ما يبدو في الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، منذ ما يزيد عن عام كامل، بدءً من غزة، وحتى لبنان، ومنها إلى سوريا واليمن، من جانب، واندلاع الحروب الأهلية، على غرار المستجدات في سوريا، وقبلها بالسودان، وهو ما يعكس تداخل العديد من الأطراف الإقليمية، والحاجة الملحة إلى مزيد من النهج الجماعي، بعيدا عن فكرة القيادية الأحادية، التي هيمنت على المشهد في المنطقة لعقود طويلة من الزمن.
الجماعية في إدارة أزمات الإقليم، في إطار الشراكات، تبدو متناغمة، مع تراجع فكرة التحالفات بصورتها التقليدية، وهو ما يبدو في حالة التعددية التي باتت تهيمن على مختلف أقاليم العالم، جراء اختلاف التوجهات بين العديد من الدول الفاعلة بها، وهو ما يبدو على سبيل المثال في تراجع ما يسمى بـ"المعسكر الغربي"، والذي شهد قدرا كبيرا من الانقسام خلال السنوات الماضية، خاصة بين الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، وهو الأمر المرشح لمزيد من التفاقم في إطار رؤية الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والتي تدور في جوهرها حول شعاره "أمريكا أولا"، وهو ما يمثل تهديدا ضمنيا للعديد من القوى الأوروبية، والتي تعتمد بصورة كبيرة على دعم واشنطن، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي.
ولكن بعيدا عن النطاق العالمي في صورته الواسعة، نبدو في حاجة ملحة إلى رؤية أعمق للترتيبات التي تشهدها المنطقة، باعتبارها ذات الأولوية، على خلفية اشتعالها، جراء المستجدات المتلاحقة، والتي قد لا تؤدي، حال الفشل في احتوائها، عن أي قدر من الاستقرار، سواء على المدى القريب أو المتوسط، وهو ما يبدو في الأوضاع في سوريا، والتي شهدت تطورات متسارعة، أدت إلى سقوط نظام قائم وبزوغ قيادة جديدة، تزامنا مع تأجج حالة الصراع البيني، بين إسرائيل ومحيطها الإقليمي، وهو ما يضع المزيد من التحديات الموضوعة على كاهل القوى الرئيسية بالمنطقة، والتي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من التهدئة، منذ شهور طويلة، في ساحات المعارك المختلفة، وعلى رأسها مصر، والتي تقود الملف الفلسطيني، بحرفية عالية، شهد لها القاصي والداني، مما جعلها قبلة الزعماء هنا أو هناك، للتنسيق والتشاور فيما يتعلق بمستقبل القضية، وذلك بالشراكة مع العديد من الأطراف الفاعلة، في الإقليم.
والحديث عن الإدارة الإقليمية للأزمة السورية، لا ينبغي أن يكون بمعزل عن المشهد الجمعي منذ اندلاع العدوان على غزة، وربما قبله بسنوات قليلة، في إطار العديد من التحركات، التي تهدف في الأساس إلى تحقيق قدرا من الجماعية في إدارة الإقليم، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمات التي تحيط به، وإنما أيضا ما يرتبط بالأوضاع التنموية، خاصة وأن حالة الاستقرار، وإن كانت ترتبط بتقديم حلول للأزمات، فهي أصبحت أكثر ارتباطا بتحقيق الاستدامة، في إطار تنموي، من شأنه تعزيز الوضع الإقليمي، خاصة وأن التجربة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن تراجع الحالة التنموية، يؤدي إلى الهشاشة، التي تقوض أي قدر من الصمود في مواجهة ما يطرأ من أزمات.
تلك الجماعية، ساهمت بصورة كبيرة، في تفادي حالة الصدمة المتوقعة، جراء التغييرات السريعة، التي شهدتها سوريا، وهو ما يمكن أن نلمسه إذا عقدنا مقارنة سريعة، مع لحظة اندلاع "الربيع العربي"، مع بداية العقد الماضي، والتي شهدت تباطؤ وفردية في رد الفعل، ساهم في سقوط الدول تباعا في مستنقع الفوضى، وهو ما يبدو بوضوح في التحرك العربي الجماعي السريع، عبر اجتماع العقبة، والذي ضم وزراء خارجية دول لجنة الاتصال الوزاري الخاصة بسوريا، التابعة لجامعة الدول العربية، بمشاركة أمينها العام أحمد أبو الغيط، ثم تواتر الزيارات، من قبل وفود أردنية وسعودية وقطرية، للقاء القيادة الجديدة في دمشق، وهو ما يمثل بادرة مهمة، تعكس رغبة في الانفتاح، بما يحقق مصالح الشعب السوري، والحفاظ على الدولة ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، وهي الأمور التي أكد عليها جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة، وعلى رأسها مصر.
وإذا ما نظرنا إلى الوفود التي زارت دمشق، في إطار الحالة الإقليمية العامة، بحسب الصورة سالفة الذكر، نجد أنهم في واقع الأمر، يمثلون أطرافا فاعلة في شراكات أوسع على المستوى الإقليمي، فالأردن أحد أهم أضلاع الشراكة الثلاثية مع مصر والعراق، وبالتالي فتحمل معها رؤى شركائها، إلى القيادة السورية الجديدة، بينما قطر، فهي شريك فاعل في محادثات وقف إطلاق النار في غزة مع مصر، وهي أحد القضايا التي يمكن فصلها عن الإطار الإقليمي العام، في حين تبقى المملكة العربية السعودية، أحد أهم القيادة الفاعلة في المنطقة، والتي يمكنها المشاركة بفاعلية في صياغة العلاقة بين سوريا الجديدة، والمحيط الإقليمي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران.
الإدارة الجمعية للإقليم، في واقع الأمر، هي نتاج جهود مصرية كبيرة، ساهمت بصورة كبيرة في إنهاء الصياغات النمطية، لمفهوم "الدولة القائد"، عبر اعتماد نهج الشراكة، في أطر حملت بالأساس أهداف تنموية، لتحقيق المصالح المشتركة، وأمنية لمجابهة التحديات في إطار حرب إقليمية على الإرهاب، بينما عكست إدراكا عميقا بطبيعة الأزمات التي تواجهها المنطقة في المستقبل، وصعوبة مواجهتها في ظل الحالة الأحادية التي هيمنت على الإقليم لعقود طويلة، وهو ما ساهم في تدشين حقبة من المصالحات، بين القوى المتصارعة، ساهمت في تحقيق توافقات كبيرة فيما بينهما فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الرئيسية، وعلى رأسها قضية فلسطين.
وهنا يمكننا القول بأن الزيارات المتواترة للوفود العربية، إلى دمشق، هي بمثابة دعوة جماعية للقيادة الجديدة للاندماج في المحيط العربي، ولا تمثل فقط الوفود الزائرة، وهو ما يبدو في الحرص الشديد على التنسيق فيما بينهم وبين شركائهم الإقليميين، في محاولة لتفادي أخطاء الإقليم في إدارة حقبة "الربيع"، من جانب، بينما يمثل فرصة للقيادة الجديدة في دمشق، لتتفادى هي الأخرى السقوط في أخطاء النظام السابق، من جانب آخر خاصة وأن التجربة أثبتت أن التغييرات قد تكون متسارعة، وأن الثمن غالبا ما سوف يكون باهظا، حال عدم الالتفات لدروس الماضي القريب، خاصة وأن التهديدات تحيط بالمنطقة بأسرها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة