حازم حسين

أصغر من القسمة وأكبر من البَلع.. ثورة سوريا ودولتها بين مجاهرة التمكُّن ومناورة التمكين

الإثنين، 23 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا تُشبه الثورةُ السورية أيًّا من ثورات المنطقة والعالم، لقد بدأت من غضبةٍ شعبيَّة، ثمَّ انتقلت سريعًا إلى فاصلٍ طويلٍ وممجوج فى لُعبة الأُمَم.


ولِنَكُن مُتَّفقين على أنه لا أحدَ من المُتصارعين يُريدُها دولةً فاشلة، ربما يسعون لتحجيمها، أو إعادة رسم حدودها المادية وتقاطُعاتها الجيوسياسية، إنما ليس من مصلحةِ طرفٍ فيهم أن تخرج جُغرافيا الشام من التاريخ، ولا أن تكون حفرةً سوداء، ولو ابتلعت خصومهم أوَّلاً، إذ لا تُؤمَنُ مخاطر أنْ تأكُلَ الدُّوَل السائلةُ نفسَها، أو تنقلِبَ على رُعاتها لاحقًا، وما حدثَ إزاء إيران وروسيا اليومَ، يُمكن أنْ يتكرَّر مع تركيا أو الولايات المتحدة غدًا، وإذا كان من السهل اللعب بالنار، فمِنَ المُستحيل إبقاؤها تحت السيطرة، لا سيَّما والبيئةُ أقربُ إلى برميلِ بارودٍ فى حقل قَشّ.


منذ انقضَتْ الحالةُ الثوريَّةُ بطابعها الشعبىِّ، استبدلَتْ بمَدنيَّتِها نَفَسًا دينيًّا حارقًا، واتَّخذت صِفَة الحرب الأهليَّة المحمولة على أبعادٍ طائفية.


ربما كان الشارعُ ينظرُ إليها من زاويةٍ مُغايرة، لكنَّ الفاعلين الكِبار فيها لوَّثوا وجهها الصافى، قصدًا أو اعتباطًا، ومن جهة النظام مثلما من الفصائل السُّنيّة المُسلَّحة.


ولا يعصمُ من هذا الاستخلاص، أن يُرصَدَ حضورٌ دُرزىٌّ فى الجنوب، أو يتمثَّل العَلَويِّون والتركمان بنِسبةٍ زهيدةٍ فى زُمرة المُقاتلين، إذ يظلُّ الالتباسُ مُرافِقًا لحركة الأكراد على سبيل المثال، وقد بدا أنهم مَعنيِّون بالدرجة الأكبر بالتصدِّى لهجمة الأُصوليَّة الداعشية سابقًا، ثمَّ للميليشيَّات الرديفة للمشروع العثمانىِّ فى وقتٍ لاحق، وقد كانت توافقاتُهم مع السلطة فى دمشق، أعلى مِمَّا هى عليه مع المُنتسبين لتيَّارات الإسلاميِّين شمالا وعلى تخوم الفرات.


لم تنجح قُوى الثورة فى بناء سياقٍ جامع، اللهم إلَّا الاتِّفاق على كراهية الأسد وطغيانه الأبدىِّ، وإذا كان الوِفاقُ فى تلك النقطة صالحًا لنَقضِ الحُكم القائم، فإنه لا يُوفِّر الأرضيَّةَ اللازمة للتلاقى على نظامٍ بديل.


والمعنى، أنَّ العدوَّ المُشتركَ أخفى كثيرًا من التناقُضات الأَوَّلية الزاعقة، كما أوحى طولُ الصراع بتجاوزها، إلَّا أن الخروج من حقبة «البعث» سيفرضُ التزاماته الطارئة بالضرورة، وسيُعيدُ المُكوِّنات التى وحَّدَها العهدُ البائد، إلى حال الخلاف على حظوظها من المشهد، وصيغة العَقد الاجتماعىِّ القادرة على بناء السياق الجديد، دون انسحاقِ طرفٍ، أو هيمنة غيرِه بثِقَل الديموغرافيا أو سطوة السلاح.


بقوَّة الواقع، عُدَّ «بشَّار» ساقطًا بشكلٍ عَمَلىٍّ منذ تآكلَتْ الأرضُ تحت قدميه، وأُجبِرَ على تفاهُماتٍ جعلَتْه حاكمًا لخَمس محافظاتٍ إلى جانب العاصمة، ولم تَعُد شرعيَّتُه نابعةً من القبول الشعبىِّ ولا حتى من قوَّته الذاتيَّة.


بمعنى، أنه صار سيِّدًا على جزيرةٍ مُطوَّقة من كلِّ الجهات، ماديًّا ومعنويًّا، إذ لا يحتكرُ القوَّة فى مُواجهة مُنافسين لا يقلّون عنه شراسةً ودعمًا خارجيًّا، ولا يحوزُ خيارَه المُستقلَّ وسط مزيجٍ من الوصاية الروسيَّة والإيرانية.


كان قرارُ القتال يُتَّخَذُ فى الأناضول، ومُداولات التهدئة تُدارُ فى آستانا، والحمايةُ الأمريكية تُظلِّل شرقىَّ الفرات كاملاً، بينما لا يعدو هو ومُناوئوه أن يكونوا مُجرَّد بيادق على رقعةٍ يتخطَّفها اللاعبون.


مُفارقةُ التأسيس جمعت المُتناقِضات كلّها معًا فى بوتقةٍ واحدة، الشرارةُ التى اندلعت من «درعا» منحت الحالةَ طابعًا ثوريًّا، وانشقاق بعض وحدات الجيش أضاف بُعدَ الانقلاب العسكرىِّ.


استدعاءُ الميليشيات الأُصوليَّة من العراق وغيره صَبغَ الأجواءَ بنكهةٍ إرهابيَّة، وتَدخُّلات العواصم القريبة والبعيدة، بالأصالة أو عبر الفاعلين من غير الدُّوَل، حرَّفَتْ المسألةَ نحو سياق الحرب بالوكالة.


وعليه، ما عاد دقيقًا أن تتحدَّث عن ثورةٍ، ولا عن أىِّ تعريفٍ آخر بمُفرده. إنها مجموعُ التفاعُلات كُلِّها بأوصافها السالفة، والخروجُ منها يتطلَّبُ هندسةً عكسيَّة لمسار الانخراط فيها، وتفكيكًا للمكونات أو توفيقًا بينها، بما يسمحُ باستبقاء وجهٍ وتحييد بقيَّة الوجوه.


ولأنَّ المُقدِّمات المُتشابهة لا تقودُ لنتائجَ مُتطابقةٍ بالضرورة، فلا يُمكِنُ استشراف المآلات بالنظر للتجارب الثورية فى مصر وتونس مثلاً، أو انفتاح الشرايين على الخارج كما فى العراق واليمن.


والعِبرةُ ليست فى تفضيل صِفَةٍ وتغليبِها على غيرها بانحيازٍ أخلاقىٍّ أو نزوعٍ أيديولوجىٍّ، إنما يتحدَّدُ الوصفُ الدقيق بما يتأسَّس عليه المسارُ الجديد.


والمعنى، أنَّ بُروزَ المُكوِّن الشعبىِّ وتقدُّمَه على غيره قد يستعيدُ طابعَ الثورة الضائعة، بينما البقاءُ فى عُهدة الميليشيات، ومُواكبتُها برعاياتٍ خارجيَّة غير خافية، لن يُغيِّر من حقيقة أنَّ الانتصارَ بصورته الراهنة يصبُّ فى نهر الرجعيَّة الدينيَّة.
والقضاءُ مُبرَمٌ مهما أفرطَتْ فى الوعود والتطمينات، أو استعارت وجهًا مدنيًّا لم تُوطِّئ عليه حركتَها منذ البداية، ولا ينسجمُ مع أدبيَّاتها المُؤسِّسة، وسُلوكِها الظاهر فى المجال العام، منذ الرصاصة الأُولى، وإلى احتلال قاعات قصر الشعب اليوم.


لم يَكُن الأسد، والِدًا ووَلَدًا، نتاجَ حَرَكيَّةٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ حُرّة، جاء الأوَّلُ ضمن حلقةٍ من مسلسل الانقلابات، الدموية والناعمة، وفُرِضَ الثانى على الناس بالنَّسَب العائلىِّ وامتداد مصالح النظام، أىْ أنَّ كليهما من إفرازات القوَّة والشمولية.
والحال أنَّ مشروع الجولانى يُولَدُ قيصَريًّا من الخاصرة ذاتِها، فما أنتجَتْه تفاعُلات البيئة فى مناخٍ صِحىٍّ، ولا انتخبَه الناسُ بالجدارة، أو حتى بحقِّهم فى التجربة والخطأ. عَمَّدَه السلاحُ بديلا عن سلفٍ خانَه السلاحُ، والشعب فى سياقٍ كهذا كان مَدعوًّا للتوقيع على ما أقرَّه الزعيمُ الآفل، وسيُدْعَى تاليًا للإقرار بدستورٍ ستُملِيه إرادةُ القائد البازغ.


ولَسْنا فى حاجةٍ للتذكير بأنَّ العائلةَ الأسديَّة ما استهلكَتْ شيئا أكثرَ من الحديث باسم الجمهور، وما كانت رسائلُها المُعلَنة تُعبِّر عمَّا تُخبِّئه نفوسُها السوداء، وتنطوى عليه سجونُها الوحشيَّة، أو يَكنِسُه إعلامُها تحت سجاجيد الدعاية وأناشيد الحماسة والأمل.


ليس فى الذاكرة السورية نموذجٌ واحدٌ لصاعِدٍ لم يتعثَّر فى درجات السُّلَّم، ولا تتذكَّر دمشق لأىٍّ من طوابير الحُكَّام العابرين عليها، أنهم جاهروا بما فى صُدورهم، أو رحلوا على العهد الذى جاءوا عليه.


والتعلُّل بأنَّ سيولةَ الثورة تفرضُ مناخاتِها القاهرةَ، إنما يَنُمُّ فى حقيقته عن صيغةٍ من الفَرز والاستبعاد، وعن تجييرِ أرصدةِ الثِّقَة والطُّهرانية ونقاوة المَقصد لصالحٍ لاعبٍ بعَينه، مع ما يُضمِرُه سلوكٌ كهذا من تخوينٍ للآخرين، أو شَكٍّ فى نواياهم على أحسن الافتراضات،  إذ لو كانت اللحظةُ مُؤمَّمةً بالكامل لتصفية ميراث البعث والعائلة الأَسَديَّة، فإنَّ اختزالَ القَيِّمين على المهمَّة فى «الشَّرع» ورجالِه، إنما يقتربُ من إلحاق الجميع على النظام بدرجةٍ أو أُخرى، وأقلّه أنهم مُبعَدُون من إرساء الأُسُس العُظمى للمرحلة المقبلة، ولن يتخطَّى إسهامُهم لاحقًا نطاقَ اللعب فى دائرةٍ مُقفَلَة، أو التخيير تحت قيودِ التَّسْيِير.


تبدأ سوريا اليومَ من نقطةٍ دون الصفر تقريبًا، واحتكارُ إدارتها فى سياقٍ كهذا يُوجِّهُ المشاعرَ بقَصدٍ يتعذَّرُ إنكارُه. عُمقُ الأزمة الراهنة يُمكِنُ أن يُتَّخَذ ذريعةً لتبرير أيَّة انحرافاتٍ فى السياسة والعمل التنفيذىِّ، واستفحالُ المأساة يجعلُ من أىِّ عملٍ صغيرٍ إنجازًا كبيرًا، وبينهما يتيسَّرُ لهيئة تحرير الشام أن تُغطِّى انفرادَها بالقرار، وأن تجنى وحدَها مكاسبَ الإصلاحات الوقتيَّة الزهيدة.


وعليه، فلن يبدأ الحوارُ مع الآخرين مُستقبلا من مراكزَ مُتكافئةٍ، لاعتباراتٍ عديدةٍ أبرزها أنه سيكون بين سُلطةٍ مركزيَّةٍ وتيَّاراتٍ مُتشظِّية ومسكونة بالهواجس تجاه بعضها، وأهمّها أنه لن يخرُجَ عن الأُطُر التى رسمَها القادةُ الجُدد، مدعومةً بقوَّة المُؤسَّسات، وبالتسرُّب البَطِىء فى شرايين الدولة وأَورِدَتِها، كأنَّك تُرتِّبُ لمبُاراةٍ تنافُسيَّة، بعد أن تمنحَ أحدَ الفريقين شَوطًا كاملاً من الانفراد بالمَرمى فى غَيبة المُنافِسِين.


البيروقراطيَّةُ مِطواعَةٌ بطَبعها، ولو شاغَبَتْ فى المهامِّ اليوميَّة العابرة. وتاريخُها، فى البيئةِ الشرقيَّة على الأقل، يَقطعُ بأنّها أداةٌ سُلطَويَّة سهلةُ القياد والترويض.


كانت أحشاءُ الدولةِ أَسَدِيَّةً بالكامل، ترهيبًا وترغيبًا أم بالقناعة والانتماء، ويُمكِنُ بالمُسبِّبات نفسِها أن تكون «شَرعيَّةً»، مع مُهلةٍ يَسيرة تحت راية الزعيم الجديد.


وعمليَّةُ التصفية البَعثيَّة هُنا تُطابِقُ أُمثولةَ «رأس الذئب الطائر»، إذ مع تفكيك الجيش والأجهزة الأمنيَّة، وافتتاح مراكز لتسوية أوضاع مُحازبى النظام الساقط وعناصره، سيتحقَّقُ الرَّدعُ المَعنوىُّ لِمَن تُعتَقُ رِقابُهم من المُساءلة، ثمَّ لدى طوابير خلفَهم من المِهنيِّين التكنوقراط.


ستَصطَبِغُ الأَبنِيَةُ الإداريَّةُ بلَونِ الحاكم الجديد وتفضيلاته، ما ينعكسُ لاحقًا على خيارات جيوشِها الجرَّارة، وأدائهم الوظيفىِّ، وربما على ورشة التأسيس المُنتَظَرة، من كتابة الدستور إلى صناديق الاستفتاء والانتخاب.


احتاجَتْ المُعارضةُ فى السابق شهورًا طويلةً لبناء ائتلافٍ يُفاوِضُ السُّلطة، ولم يَكُن محلَّ وِفاقٍ كاملٍ وقتَها، وإلى الآن، بدليل أن جناحها المدنىَّ عاجزٌ عن الاجتماع بقائد الجناح العسكرىِّ.


والأُسرةُ الميليشاويَّةُ نفسُها تَبرُزُ التناقُضات بين مُكوِّناتها، وقد جاهرت حركاتٌ عِدَّة بأنها لن تُلقِى السلاحَ، ولن تنخرطَ فى سياق التأهيل المُؤسَّسىِّ وفق البرنامج المُقترَح من قيادة العمليات المشتركة، و«الشرع» من جانبها يحاولُ الالتفافَ باستمالة القلوب، وتقديم العطايا.


اجتمعَ بقادة الفصائل، ليتجنَّب نزاعاتهم المُحتمَلَة بشأن تركيبة الجيش الجديد، وأجاب على سؤالِ BBC عن رَدِّ فِعلِه حالَ التمرُّد، بأنه سيحتكِمُ للشعب والقانون، ما يُوحِى بأنه يعرفُ حجمَ الهشاشة فى تحالُفِه، ويتوقَّعُ انكسارَه فى أيَّة لحظة.


والمُرادُ من سَوْقِ المثال، أنَّ عمليَّةَ الخروج من السيولة إلى الصلابة لن تكون سهلةً أو سريعة، وستعترضُها تحدِّياتٌ عديدةٌ ومُركَّبة، لكنَّ النزاعات بينما تأكلُ من الآتين بصفاتٍ مدنيَّة وعناوين فرديَّة، قد تصبُّ فى المُقابل لصالح الآخذين بخِناق الدولة من مواقع القرار.


برنامجُ الانتقال لم تَتَّضح معالُمه بعد، وكلُّ ما سِيْق منه للعَلَن أنَّ الحكومةَ مُكلَّفةٌ بتصريف الأعمال لثلاثة أشهر، وأنَّ الأيَّام الغامضةَ حُبلى بتطلُّعاتٍ لإنجاز العَقد الاجتماعىِّ والدستور، إنما من دونِ تصوُّرٍ ناضجٍ ولا مُقترحاتٍ واضحة.


يرفضُ «الجولانى» الاحتكامَ للقرار الأُمَمىِّ رقم 2254، وخُلاصته التوصُّل لسُلطةٍ مَدنيَّةٍ غير طائفية فى غضون ستَّة أَشْهُر، ثمَّ ثلاثة أمثال المُدَّة لإنجاز ترتيبات الانتخابات التشريعية والرئاسية على قاعدة وطنيَّةٍ خالصة، ومَوقفُه ربما يَنُمُّ عن خلافٍ على الجدولِ الزمنىِّ، أو على إشراك الآخرين فى حكومته، وكلاهما يقودُ بالضرورة إلى بديلٍ غامض، يسكنُ ذهنَه وحدَه، وسينبعُ من إرادةٍ فرديَّة، وبإملاءِ الحاكم على المَحكومِين.


الجملةُ التالية مُباشرةً ستُفصِحُ عن محدوديَّة الوقت المُتاح للحكومة، وهو محدودٌ فعلاً، وعليه، سيتمدَّدُ المُؤقَّت إلى ميقاتٍ جديد.


لا أُفقَ للشراكة التنفيذيَّة على ما يبدو، ومن ثَمَّ سيكونُ إنهاءُ تكليف الإخوانىِّ محمد البشير ووزرائه محكومًا بإنجاز الاستحقاقات الدستورية، وتجهيز أجواء الانتخاب، وحال التنازُع فى تركيبة الجمعيَّة التأسيسية لكتابة الوثيقة، وهو أَمرٌ مُتوقَّع أو مَقطوعٌ به، فى ضوء السيولة والمُنازعات والاختلاف على أدقِّ التفاصيل، لن تعودَ هيئةُ تحرير الشام مُتَّهمةً باحتكار السُّلطة، وإطالة المرحلة الانتقاليَّة قسرًا، بل سيقعُ اللومُ وقتَها على المُكوِّنات السياسيَّة والمَدنيَّة العاجزة عن الاتِّفاق.


وعندما تأخذُ الخلافاتُ مَدَاها فى التذويب، ستكونُ التركيبةُ الناشئةُ من رحْم الشِّقاق والمُغالبة وفرض الإرادات، مُعبِّرةً عن توازُناتِ قوىً تختلفُ عَمَّا هى عليه الآن، وسيكونُ الفَرعُ الأُصولىُّ منها قد تَمَكَّن من مفاصل الدولة، واستحكمَتْ قبضتُه على عقلِها ومنظومتها الإداريَّة.


شَغَلَتْنا حقبةُ الجولانى «الداعشية/ القاعِديَّة» عن ركائزه العقائديَّة الراسخة، وعن هواه الحقيقىِّ الكامن تحت عِمامة الإرهاب قديمًا، ووراء لِحيَة الاعتدال حاليًا.


انتقالاتُه بين الولاء للبغدادى ومُبايعة الزرقاوى، ثمَّ العمل لصالحه، والانضواء تحت راية العثمانية الجديدة، كلُّها قد تُعبِّرُ ظاهريًّا عن مَسلكٍ براجماتىٍّ مُتحرِّكٍ، لكنها إذ تُشيرُ لهذا بأُصبعٍ، تُلوِّحُ ببَقيَّة الكَفِّ ناحيةَ صيغةٍ إسلامَويَّةٍ بعَينها.


ليس عابرًا أن ينتخِبَه رجالُ «العدالة والتنمية» من بين أُمراء الحرب السورية، وليست مُصادفةً أن يترأّس حكومتَه عضوٌ بالإخوان، مع حزمةِ وزراءٍ من الجماعة، ولا أن يُفسِحَ مكانًا من جَدولِه المُزدَحِم بالوفود الدوليَّة، ليلتقِى عُنصرَ التنظيم وناشط حركة «حازمون»، المدعو محمود فتحى، المُدان فى جرائمَ إرهابيَّةٍ داخل مصر.


يُمكِنُ أن يتوبَ الجاهديِّون عن القَتل مع بقاء أفكارهم، أو أن يَكفروا بالسياق كُلِّه إلحادًا أو اعتزالا، لكنهم لا يصيرون مَدنيِّين بنكهةٍ ليبراليَّة مُتسامِحة، على الأقل فى جُملةِ ما عاينّاه من تجارب.


وأغلبُ الظنِّ أنه بدأ من لحظةٍ إخوانيَّة، وانتقالاتُه العنيفة كانت استثناءً لأدوارٍ وظيفيَّة، والوَجهُ الذى يُصدِّرُه اليومَ ليس أكثرَ من عودةٍ إلى الأصل.


قياسُه على مَروَحة التيَّارات الإسلاميَّة ربما يُحدِّدُ مَوقِعَه بينها، بالتشبيه والمُطابَقة، بأصدق مِمَّا يسيلُ على لسانه ويُناقِضُ سوابقَ أفعاله.


وبينما يَصعُب توفيقُ صورتِه بتحوُّلاتها مع أىٍّ من رموز الجهاد والجماعة الإسلامية والقاعدة وداعش، يسهُل إدراجُه فى إطارٍ واحدٍ مع نموذجٍ مثل عبدالمنعم أبوالفتوح، وأشباهه فى حقبة العرب الأفغان، ومع طابورٍ طويلٍ من عناصر الجماعة المُتردِّدين على دوائر الإرهاب ذهابًا وعودة.


وقد يصلُ امتدادُ الخطِّ إلى الرئيس المعزول محمد مرسى نفسِه، وقتَما كان يلعبُ دورًا سياسيًّا، ويُغطِّى على تجنيد جماعتِه للشباب، وإرسالهم للقتال فى الشام، حتى كان مَشهدُه الفَجُّ فى الصالة المُغطَّاة بإستاد القاهرة، تحت شعاره الحنجورىِّ الزاعق «لَبّيك سوريا».


وبعيدًا عن إخوانيَّته من عَدَمِها، فإنّه يشتركُ مع الإخوان فى الاحتماء بمَظلَّة الأناضول، مثلما كان حال حركة النهضة فى تونس، وبقايا الجماعة فى ليبيا إلى الآن.


وإذا كانت الطَّبعةُ المصريَّة قد أخفقَتْ بأثَرِ الاستعجال، ولم يَكُن الغنّوشى مُوفَّقًا فى استيعاب التراكُم المَدَنىِّ العميق منذ حقبة بورقيبة، فضلاً على الحاكميّة القبائليَّة بين الأقاليم الليبية الثلاثة، فإنَّ الوصفةَ المُعَدّة للجولانى ورجالِه تبدو مُتحرِّرةً من أخطاء سوابقِها، ومُنضبِطَةً أو تتوخَّى الانضباطَ فى المُوازنة بين الأجندة المُرَادَة، وتُراث البيئة الشاميَّة وتعقيداتها.


وهكذا يبدو سلوكُهم أقربُ للحَذَر من المُجاهرة، واجتناب صدمة الوعى، ومراعاة التكوينات التكتونيَّة شديدة الديناميكيَّة للمجتمع السورىِّ، مع العمل على طمأنتها، بما يمتصُّ طاقةَ التنوُّع العِرقىِّ والطائفى، بدلاً من تصليب الانتماءات الأَوَّلية على أرضيَّةٍ تُلامس مَنطِقَ القبيلة.


و«الشرع» فى ظُهوراتِه العَلَنيَّة واعٍ لهذا، وقال فى مَعرضِ التفرقة بين تجربته الناشئة، وما آل إليه الحالُ فى أفغانستان، إنَّ الأخيرةَ مَحكومةٌ بالقبلِيَّة، بما لا يتحقَّقُ فى الفضاء السورىِّ.


والأكيدُ أنّه ليس غافلاً عن حقيقة أنَّ الفرزَ قد يُحوِّل الإثنيَّات والعقائد إلى عوائلَ ووحداتٍ مُغلَقة على ذاتها، لكنه يتسرَّبُ من شُقوق البَعثيَّة العَلَويَّة، ليُطمئِنَ المذهبيَّات القَلِقَة، ومن الوَصْمة الفارسيَّة، ليجتَذِبَ العربَ والكُردَ، ورهانُه على أن يكون التمكينُ بطيئًا وناعمًا، بما لا يستفزُّ المُناوئين والخائفين قبل الأوان، ولا يستنفِرُ اعتراضاتِهم الصاخبةَ ودفاعاتِهم الخَشِنَة.


انقلبَتْ «حماس» على الأسد بعدما تربَّحت كثيرًا من رعايته، ولعِبَتْ دورًا فى مشروع تجارته بفلسطين، وقتَما كان يَغُضُّ الطَّرفَ عن الجولان، وبينما قاطَعَتْ الشيعيَّةَ المُسلَّحة فى سوريا، انصاعت لها فى غزَّة ولبنان، وقد تعودُ اليومَ لدمشق تحت عباءة أحمد الشرع، ولم تنقطع صِلَتُها مع طهران بعد.


والمثالُ السابق هو الأكثر وضوحًا، لكنه ليس الوحيد. بعض الميليشيات السُّنيَّة تلعبُ فى الحظيرة العثمانية، وبعضُها تُروسٌ فى الماكينة الأمريكية، وكلاهما تُخاصِمُ الإدارةَ الذاتيَّة للأكراد، وهُم بدورِهم على خلاف مع طهران وأنقرة، وغير بَعيدِين من بغداد وأربيل، رغم ما بين المَركَزَين العراقيِّين من صراعاتٍ ظاهرة ومكتومة.


الخرائطُ سائِلَةٌ ومُتداخلةٌ مع بعضها، والمَواقفُ لن تتحدَّد بالأيديولوجيا، مثلما لا تستطيعُ الفِكاكَ من القيود الجيوسياسية. وبطبيعةِ الحال، لا يُمكِنُ بناء سوريا الجديدة بمَعزلٍ عن تلك التقاطُعات، ولن يستقيمَ البِناءُ لو مالَ لأحد أطرافِها على حساب الآخرين.


باختصارٍ، ليس فى مَقدور هيئة تحرير الشام أو غيرها أن تَفرِضَ لَونَها على السياق، ويُخطِئُ الجميعُ لو تغافلوا عن حقائق الجغرافيا والتاريخ، ويَصيرُ الخطأ خَطِيئةً إن تجاهلوا أنَّ سوريا أكبرُ كثيرًا من الابتلاع، وأصغرُ جدًّا من إمكانيَّة التقسيم. ولا يعنى هذا أنها آمنةٌ من الاختطاف والتجزئة، إنما أنَّ المحاولةَ ستكونُ وبالاً على السائرين فيها جميعًا.


الثورةُ مُلزَمةٌ بالانتقال إلى الدولة، والحربُ مآلُها السياسة، والغايتان يجبُ ألاَّ تتساندا على سلاحِ المُنتَصِر، أو جاهزيَّة الأقدر على انتزاع الولاية. العَقدُ الاجتماعىُّ الذى يُسرِفُ «الجولانى» فى الحديث عنه عِمادُه التكافؤ، والدستور وثيقةٌ لتَوفيقِ التناقُضات لا حسمِها نهائيًّا لصالح أحدٍ بعَينه.


وعليه، فالدُّوَل وَرشَةُ مَصالح لا قِيَم، ويتعيَّنُ تظهيرُ مُكوِّناتها فى أشدِّ حالاتها صَخَبًا، وليس بعد أن يرسو القاربُ على إحدى ضِفَّتَى النهر. أى أن إسكات المُعترضين اليوم مَمرٌّ ذهبى لإخراسهم غدًا، ومنطق ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، كان جوهرَ الحالة البعثيّة وعَمود خيمتها.


لا مرحلةَ أحوج للكلام من الآن، وعلى كلِّ الصور والأشكال: التشاؤم والتفاؤل، اللين والشدَّة، الخاص والعام، والوطنى والفئوى. للجولانى أن يستفيد من ميزة الشَكّ، وللآخرين أيضًا أن يتحصّنوا بسوء الظنّ، والفارق عريضٌ بين تفويض الشعب اختيارًا، وانتزاع السُّلطة منها بصيغة عقود الإذعان.


ربما كان الأوفَق أن يتشكَّل مجلس رئاسىٌّ، وأن تُكلَّف الحكومة من خلاله، بصبغةٍ مدنيّة غير طائفية ولا احتكارية. والأهم أن يُوضَع برنامج زمنىّ واضح، وأن تتمثَّل القوى كلّها بحسب الأوزان الجغرافية والديموغرافية ومصالحها، وما يزالُ المجال مفتوحًا للاستدراك.


الثورة مِلكيّة وطنيَّة لا أُصوليَّة، والخطوة الأُولى فيها أهمُّ مِمَّا بعدها.. الأسدُ لم يكن أمينًا، والشَّرعُ ليس مُنَزّلاً من السماء، ولا حق لأحدٍ أن ينوب عن الناس بصخب الأيديولوجيا أو قرقعة السلاح.


الاستفاقة الشعبيَّة حصانةُ التجربة، وضرورة اللحظة، وإن فرَّط السوريّون اليومَ فى حراسة مُكتسباتهم، فقد يبكون غدًا تحت ظلِّ أسدٍ جديد. نادرةٌ هى تجاربُ الثورات ذات الجولة الواحدة، فإمَّا أن تُغتَنَم بحصافةٍ، أو أن تتحضَّر لجَولَتِها التالية، وغالبًا ما يكون ذلك بمخاضٍ أقسى، وتكاليف مُضاعَفة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة