حازم حسين

مفارقات مُربكة فى مشهد مرتبك.. عن حال واشنطن ومآل دمشق بين الانتقال والاحتيال

الأحد، 22 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا بيئةَ تفوقُ الشرقَ الأوسط فى توليد الصراعات، ولا أحدَ يتخطَّى الولايات المُتَّحدة فى إنتاج المُفارقات. تاريخُها قديمٌ مع التناقُضات المُركَّبة والمُربِكَة، وكثيرًا ما تتعثَّر فى المُواءمة بين القِيَم والسلوكيات. لهذا؛ لا عجبَ أنَّ أغلبَ حروبها أفضَتْ لنتائج غير ما تقصَّدته، مثلما قادتها المحاوراتُ الناعمةُ لمُخرجاتٍ لها نكهةُ الحرب. ودائمًا ما تتدخَّلُ فى المكان والزمان غير المُناسِبَين، أو بأسوأ الطرق وأكثرها رعونة.

قنبلةُ الحرب العالمية على بُعد خطوةٍ من استسلام اليابان، ومُغامرتُها شديدةُ الخِفَّة وباهظة الكُلفة فى فيتنام. المسألةُ الكورية، وانقلاباتُ أمريكا اللاتينية، وفوضى الحرب الباردة من حلف بغداد إلى تداعى سور برلين.

التأجيجُ الأهوج فى أفغانستان والعراق، وتدخُّلاتُها الفوضويَّة فى الربيع العربى، وصراعُها مع إيران، والرقصة غير المنسجمة إيقاعيًّا من سوريا إلى اليمن، وصولاً لازدواجية المعايير فى غزَّة بعد «طوفان الأقصى»، وارتباكها الفجَّ حاليًا فى سوريا.

تخلَّت عن شاه إيران فيما يُشبه الدعمَ للخمينى؛ لكنها اصطدمت به سريعًا فى اقتحام السفارة ورهائنها. دعمَتْه فى الحرب مع العراق، واحتملَتْ تكاليفَ الانكشاف فى فضيحة الكونترا؛ ثمَّ صمتت على تغلغُل نظامه فى دمشق وبيروت، وسلَّمته بغداد على طبقٍ من فضَّة.

واليومَ، تحاولُ بكلِّ الصُّوَر أن تستدرك أخطاءَ العقود الأربعة الماضية. والشائعُ عن واشنطن، وهو صحيحٌ بالمناسبة، أنها تفعلُ الشىءَ الصحيح؛ إنما بعد أن تُجرِّب كلَّ الخيارات الأُخرى، على قول تشرشل المأثور، وبطبيعة الحال فإنَّ تجاربَها تكون خاطئةً فى الغالب.

المُفارقة الجديدة لاذعةٌ فى سُخريتِها. إذ أرسلتْ الخارجيَّةُ الأمريكية وفدًا رفيعًا لدمشق، التقى عناصر الإدارة الجديدة، وعلى رأسهم أحمد الشرع «الجولانى حتى الآن»، بينما ما تزالُ هيئةُ تحرير الشام على لائحة الإرهاب، وقائدُها لم يَكُن أُزِيْلَ بعد من برنامج «مكافآت العدالة».

فكأنَّ واشنطن ترصدُ 10 ملايين دولار لمَنْ يدُلَّها على طريق الرجل، فى الوقت الذى يجلس نخبةٌ من دبلوماسيِّيها معه فى مكانٍ معلوم، وتُواكبُهم إجراءاتٌ أمنيَّة مُشدَّدة، يُرجَّحُ أنه لم تَغِبْ عنها العناصرُ الأمريكيَّة!

ليس مطلوبًا بالطبع أن يُخاصِموا السياق الجديد، ولا أنْ يُطاردوا شخصًا وضعَتْه الظروفُ وفوّهات البنادق على رأس السلطة.

قانونًا لا مشكلةَ فى فَتح قنواتٍ مع المطلوبين؛ لكنَّ الحدَّ الأدنى من الاتِّساق كان يفرضُ عليهم التمهيد، ولو بالإعلان عن بدء مُراجعةٍ جادة، أو على الأقلّ تعليق المكافأة قبل الزيارة لا بعدها؛ إنما على العكس، استبقَتْ اللقاءَ بتأكيد أنها ما تزالُ ساريةً.

وإذا أضَفْنا التباطُؤَ فى رَفع العقوبات، وعدم الاقتراب الجاد من قانون قيصر؛ فربما نكونُ إزاءَ رغبةٍ فى توظيف الإغاثة والقانون لخدمة السياسة، وتحويلهما إلى أداةٍ للابتزاز والتطويع.

المُؤكَّد أنَّ لدى «الجولانى» سيرةً ملوَّثة، ولم يُقدِّم حتى الآن ما يُطَمئِنُ الآخرين إليه، أو يتجاوزُ الوعودَ المعسولة إلى الأفعال الملموسة. لكن ليس الحلّ فى التعامل معه بمَنطق المقايضة، وإبراز صورةٍ مُبكِّرة عن الانتهازية التى يستقبلُه بها العالم، بما يسمحُ له لو أراد بأن يُفوِّتَ فى جانبٍ ويتشدَّد فى الآخر؛ مُستندًا لأنّه مَدعوٌّ إلى الالتزام تجاه الغرب، وليس أمام بيئته والاستحقاقات المُجرَّدة من النفعيّة والخداع.

الانطلاقُ من نقطةٍ مُتحرِّرة بالكامل من الضغوط، قد يكون مُفيدًا له فى الشقِّ الشخصىِّ؛ لكنّه أكثرُ إفادةً لسوريا فى وضعها السائل، لأنه سيُحرِّرُ الانتقالَ من اعتبارات الخارج، ويترُكَه خالصًا لتوازُنات الداخل، بمعزلٍ عن التذرُّع بعداوة القوى الكبرى، أو الاكتفاء بقَبولِها المُتدرِّج وفق حساباتٍ «فوق سوريَّة» غالبًا.
يُمكن للدعاية الأُصوليَّة أن تزعُمَ تشغيبَ المحيط الإقليمىِّ والعالم على التجربة، وسيتعذَّرُ على مُكوِّنات المجتمع أن تطلُبَ الوفاء بالالتزامات الضرورية، بينما تُواجِهُ الدولةُ تحدِّياتٍ ثقيلة بشأن المشروعيَّة والأولويات الضامنة للانتظام السياسى والتنفيذى.

ومن حيث يُرَادُ ترويض الإدارة بسيف القانون، ظاهريًّا على الأقل؛ فإنها تُدْعَمُ من وراء ستارٍ، بإثارة غبار النزاعات القديمة فى أُفق الشام، وإبقاء اللحظة الانتقالية أسيرةً لتعقيدات الماضى، وميراث «البعث» وصراعاته المُتداخِلة.

كما لو أنَّ «الأسدَ» غادر المشهد بقوَّة الواقع، ويُهيمنُ عليه باستدامة الأثر. والعَرَضُ الجانبىُّ أن تتمدَّد مُهلةُ تصريف الأعمال، ويتعثَّر الالتئامُ على طاولةٍ جامعة، مع ما يحملُه ذلك من إبطاءٍ للترتيبات التالية، بدءًا بتنظيم الحكومة، وتهيئة مُؤسَّسات الانتقال، وصولاً لكتابة الدستور وإجراء الانتخابات.
يُحاذِرُ الجميعُ من إعادة استنساخ التجربة الأفغانية. وإذا كان «الجولانى» صرَّح بأنَّ سوريا لن تكون أفغانستان؛ فالمُقاربة الأمريكية تكاد أن تتطابَق فى الحالين. لديها حضورٌ قديم؛ ولو فى شرق الفرات حصرًا، وعليها التزامٌ تجاه الإدارة الكُرديَّة الذاتية.

صراعُها مع النظام وداعش وجبهة النُّصرة نفسِها لا يختلفُ عمَّا كان مع طالبان، ثمَّ كانت مفاوضاتُها مع الحركة فى الدوحة، وما أفضت إليه من تَخَلٍّ عن نظام «أشرف غنى»، وسقوط كابول فى مُدَّةٍ شبيهة بوصول مُقاتلى إدلب إلى قلب دمشق.

الانسحاب المُفاجِئ هناك كان دمويًّا، وحملَ رائحة الخيانة لحُلفاء عملوا مع ثلاث إداراتٍ أمريكية متنوّعة الألوان، والنتيجةُ أنَّ البيت الأبيض قدَّمَ ما يُشبِه الاعترافَ الرسمىَّ بالفشل، وقد جاء مكتوبًا بدماء المدنيِّين ومعاناةِ النساء والأطفال، ولم يكن مَشمولاً باعتذارٍ أو محاولةِ تصويب.

تطميناتُ «الجولانى» لا يُمكِنُ التعويل عليها بشأن المستقبل. الكُردُ مَذعورون فيما يخصُّ حضورَهم فى السياق الجديد، بينما يُطوِّقُهم الجيشُ الحُرُّ من الغرب، والقوَّات التركية شمالاً، وتقول الهيئةُ إنه لا مجالَ للفيدرالية، بينما لا تقترحُ عليهم البديل، ولا تتحرَّكُ لإدماجهم فى الإدارة الانتقالية.

وإذا تحقَّقت مخاوفُ الانسحاب الأمريكىِّ اليوم، أو فى ولاية ترامب؛ فلن يكون تضحيةً بقوَّات سوريا الديمقراطيَّة فحسب، بل سيحملُ بين معانيه شيئًا من التصريح بابتلاع بقيَّة الأقليّات، وفَرض لونٍ واحد على الدولة، بنشوة الإجماعِ الآن، أو بقوَّة الواقع وسطوة السلاح المُستفرِد بالبيئة الوطنية تاليًا.

الحلُّ الوحيد أنْ تُوظَّف الطاقاتُ الدوليَّةُ كُلُّها لتقوية الحالة المَدنيَّة، بأكثر من الانصراف لترويض المُكوِّن الأُصولىِّ أو إضعافه. فالحال؛ أنَّ السلاحَ سيظلُّ حاضرًا، وقد تضاعفَتْ الحاجةُ إليه بعدما أجهَزَتْ إسرائيلُ على ما تبقَّى من الجيش، وجاهرَ «الجولانى» بتفكيك الأجهزة الأمنية، وإلغاء التجنيد الإلزامىِّ، مع مسارٍ مفتوحٍ لإدخال الميليشيات فى جهاز الدولة الصلب.

وعليه؛ فالمُقدِّمات شبيهةٌ بإنتاج حَرَسٍ ثورىٍّ أو وحدات «باسيج»، وأن يصير «الشرع» مُرشِدًا أعلى للثورة بالمُمارسة، قبل أن يحتاج أصلاً للاحتكام إلى الصناديق، أو إنتاج شرعيَّةٍ تمثيليَّةٍ بديلة عن السير فى حماية البنادق.

وكلُّ تَرَاخٍ عن ترتيب ورشة الحوار على وجهِ السُّرعة، أو مُناورة القيادة الجديدة فيما يخصُّ المساحة المُلتبِسَة بين الالتزامات الوطنيَّة والأُمَميَّة؛ ربما تكون مُقامرةً كاملةً باللحظة وما بعدها، وتسليمًا بمَفازة الخلاص من طهران وحضورها الفارسىِّ، بينما تتشكَّلُ نسخةٌ مُطابِقةٌ لها، بمَادَّةٍ سُنيَّة ولسانٍ عربىّ.
ليس تفتيشًا فى النوايا إطلاقًا؛ إنما تمديد للخطوط على استقامتها. لم يَنبُع قرار إسقاط الأسد من حالةٍ محليَّة صافية؛ بل اتُّخِذَ فى الخارج قبل تحريكِ مُقاتِلٍ أو تذخير بندقيَّةٍ واحدة.

الواقع أنَّ توازُنات البيئة السورية لم تتغيَّر عَمَّا كانت عليه؛ حتى مع الإسراف فى الحديث عن خسائر إيران الإقليمية، وانشغال الروس بأوكرانيا، وتآكل معنويَّات النظام ومحازبيه. جولة الحرب لم تندَلِع أصلاً؛ لنتحدَّث عن إفراز الميدان لرَابِحِيْن وخاسِرين.

وإذا كان التحوُّل ذِهنيًّا قبل أن يتجسَّد ماديًّا، ومن إفرازات القنوات الخلفية ومُداولات الغُرَف المغلقة؛ فالطبيعىُّ أن يُدَار تحت سقف التفاهُمات ذاتِها، وبما يحفَظُ مصالحَ المُنخرِطِين فيه، والشارع بالتبعية لن يكونَ رُمَّانة الميزان، ولا حاضرًا فى حسابات الأطراف الفاعلة.

تقاريرُ عديدةٌ تحدَّثت عن إخطارٍ مُسبَقٍ بما أكَّدته الوقائع. عمليَّةُ التحضير كانت جاريةً منذ شهور، واستُقِرَّ على القرار قبل تطوُّرات لبنان وإبرام صفقة الحزب وإسرائيل.

صحفٌ غربية، منها تليجراف الإنجليزية، نقلَتْ عن بعض الميليشيات ما يُؤكِّدُ اكتمال الصورة قبل أن تُرسَم أيّة تفصيلة فيها. قال جيش الكوماندوز الثورىُّ إنه أُخطِرَ فى مطلَعِ نوفمبر بالاستعداد لسقوط النظام، وزِيْدَت قُوَّاته ووُضِعَت له خططُ الحركة فى بادية «تدمر» وغيرها، وقيل لهم بوضوحٍ ما معناه «هذه لحظتكم فاغْتنموها».

على المَقلَب الآخر؛ خلعَ «الجولانى» عمامتَه قبل أن يُثَبِّت رجالُه أقدامَهم فى حلب أو حماة. كان مُبكِّرًا للغاية أن يُشذِّب لحيتَه ويرتدى ملابس زيلينسكى، وأن يستعيدَ اسمَه الأصلىَّ بعدما قاطعَه لنحو عقدين، منذ عبوره الحدود العراقيَّة بكُنيةٍ، وتبديلها مرَّتين بعدها على الأقل.

أصدرَ بيانًا بإمضاء أحمد الشرع بعد أسبوعٍ من بدء التحرُّك، وخرج بهيئتِه الجديدة على شاشة CNN فى اليوم التالى، وسلوكٌ كهذا ليس من عادة الإرهابيين المحترفين؛ لكنه يليقُ بالساسة ومن يتحضَّرون أو يجرى إعدادُهم لأدوارٍ عَلنيَّة.

أمَّا حديثُه اللاحق؛ فيشيرُ لورشة تأهيلٍ مُكثَّفة، وحملة علاقات عامّة شديدة الاحترافية. باختصارٍ؛ أُعِيْدَ إنتاجُ القائد تحت راية النصر، قبل أن يُطلِقَ رصاصةً على طريق دمشق. العمليَّةُ أقربُ إلى فيلمٍ سينمائىٍّ للتبشير ببطلٍ مَلحَمىٍّ، ما كان له أن يجلِسَ اليومَ فى قصر المُهاجرين، لولا أنَّ المُستثمرين فيه قرَّروا مُضاعَفة استثماراتهم، والانتقال باللعبة لمستوىً أكثر تقدُّمًا.

الخديعةُ أن يُصدِّقَ الشارعُ أنَّ التغلُّبَ على النظام حصيلةُ سلاح «الجولانى» وفطنتِه، والوَهْم أنْ يقتنِعَ «الشَّرعُ» بأنه زعيمٌ تحرُّرىذٌ كاملُ الأهليَّة والمشروعية. والتَوَسُّط بينهما أن يُمَكَّن السوريِّون من حقوقهم خارج القوَّة القاهرة، وأن يُنزِلوا قائدَهم الجديد للمُنافسة من نقطةٍ مُتكافئة.

كان الصَّفويِّون سُوسةً تنخرُ الدولةَ من داخلها، واستُعيِض عنها راهنًا بكمَّاشةٍ عُثمانيَّة صهيونية تعصرُها من الشمال والجنوب، ولا معنى لأىِّ انتقالٍ يُدَارُ تحت سقف الأزمة، أو من خلال حاضنةٍ لا يتمثَّلُ فيها الطَّيف السورىُّ على اتِّساعه وثراء تلاوينه. رمزيَّةُ «الجولانى» لن تنكسِرَ بالابتزاز؛ كما لن تتضخَّم بالصفقات المشبوهة تحت الطاولة.

لعبةُ احتيالٍ كُبرى تُدَارُ على السوريين. كان النظامُ فاسدًا ودمويًّا دون شَكٍّ؛ لكنَّ البديلَ يجبُ أن يكون صالحًا وخاليًا من الشُّبهة والعوار. المُفاضَلة بين سَيِّئين خيارُ الإصلاحيِّين لا الثوُّار، ويتعيَّنُ ألَّا يُفرَضَ من الخارج، ولا أن تُوَجَّه فيه خياراتُ الداخل بالإيحاء أو التصريح، وترهيبًا أو ترغيبًا.

وإذا كانت الثورةُ عملاً تغييريًّا شاملاً، وتُوجِبُ القطيعةَ مع القديم بكلِّ مكوناته وركائزه؛ فإنها فى الحالة السُّورية تبدأ من مُفارقة الأُصوليَّة كحالةٍ يتشاركُها الإسلاميِّون مع القوميِّين وكلّ الحناجر الزاعقة، وألَّا تَرُدَّ على استتباعٍ باستتباع، ولا أن تستبدلَ بالصَّفويَّة وصايةً عثمانية، أو مُخدِّراتٍ دينيَّةً بالكبتاجون وشعارات المُمانعة.

ما يعنى من دون لفٍّ ودوران؛ أنَّ «الجولانى» آخرُ السوريِّين صلاحيةً لفكرة الثورة أصلاً، وأنَّ التقهقُرَ إلى الخلف لا يُمكِنُ أن يصيرَ بديلاً عن مَدنيَّةٍ منكوبة؛ مهما أفرطَتْ الرجعيَّةُ فى التجَمُّل وخطابات النوايا البيضاء.

ربما يكونُ الأسبوعان مُدَّةً محدودةً للمُطالبة ببرنامج زمنىٍّ واضح وكامل؛ لكنهما كافيان لرَسم الخطوط العريضة، وترجمة النوايا عَمليًّا فى صورةِ مَواقفَ وإشاراتٍ ملموسة.

اجتمع «الجولانى» بوفودٍ أُمَميَّة وغربية عديدة، بل استقبلَ مسؤولاً شرفيًّا من دولةٍ مُجاورة بدرجة ناشطٍ على منصَّة إكس، يُرافِقُه إرهابىٌّ مَطلوبٌ فى جرائم مُشينة داخل مصر، ولم يستقبِلْ أيًّا من رموز الطوائف والمُكوِّنات السورية، باستثناء حديثٍ عابر عن اتِّصالٍ مع دروز السويداء، ومُقابلةٍ مُجدوَلَة اليومَ مع السياسىِّ الدُّرزى اللبنانى وليد جنبلاط.

المُعارضةُ المَدنيَّة نفسُها مُبعَدَة عن جدولِ القائد؛ حتى أنَّ مُنسِّقَ الائتلاف الوطنىِّ السورى، هادى البحرة، قال إنهم أرسلوا وفدًا ولم يُوفَّق؛ رغم اتِّحاد مرجعيَّة الطرفين فى أنقرة. وتلك الرخاوة ربما كانت حافزَ القُوى السياسية والاجتماعية فى الداخل على رَفع الصوت، وتنظيم تظاهُرة فى ساحة الأُمَويِّين، تُجاهِرُ بالمطالب المعروفة بديهةً بعد الثورات وفى مراحل الانتقال.

والإشارةُ؛ أنهم لو وَجَدوا مَنفذًا إلى عقل السُّلطة الجديدة، فى زحام المُقابلات الرسميَّة والصحفية، ما كان الشارعُ وسيلتَهم لإعلانِ رُؤيتِهم للدولة المأمولة، ومحاولة وَضع الفُسيفسائيَّة الشاميَّة فى القلب من مشهد الانتقال، بعيدًا من اختزال المرحلة فى ثنائية «الأسد والشرع/ البعث والعمليات المشتركة»، أو السعى الناعم لفَرضِ مسارٍ بعَينِه على ورشة التأهيل وبناء النظام البديل.

الأقوالُ لأصحابها، والنوايا فى الصدور؛ وللناظرين بحيادٍ أو انحياز ما يَرونَه من سلوكٍ ومُمارسات. والأداءُ يُفصِحُ عن الأولويَّات بأكثر من الكلام، ولو كان «الجولانى» صادقًا فى الطَّرح، أو يضعُ الشارع فى المُقدّمة؛ لَمَا تأخَّر عن مُخاطبته مُباشرةً أو عبر وسيط؛ لكنه يُقدِّمُ عليه التنسيق مع رُعاته الإقليميِّين، وامتصاص حَمَاوة الوفود الغربيَّة، وتكثيف الرسائل المُطمئِنَة للخارج، دون رسالةٍ واحدة تُبرِّد نارَ الداخل، وتُهدِّئ مخاوفَ قُواه المُهشَّمة، بين حربٍ أهليَّة طحنتها جميعًا، ومنافعَ ثوريَّةٍ تُجَيّرُ لفئةٍ واحدة.

ومن دون تجاوزٍ على فرحة السوريين، ولا ثقةِ تيَّاراتهم المدنيَّة فى نفسِها وصلابة مَواقفها؛ فإنَّ سرقةَ الثورات أسهلُ كثيرًا من إشعالها، وتجارب الإخوان فى تونس ومصر وليبيا أوضحُ من الاحتياج لشروحاتٍ وتفاسير.

الشَّكُّ أثمنُ الأدوات المطلوبة فى أزمنة الانتقال، وبقَدر الافتتان باللحظة، وفرحة الخلاص من نصفٍ قَرنٍ أَسَدىٍّ غاشم؛ تتوجَّبُ الاستفاقةُ الدائمة، وحراسةُ الحالة الوطنية من التطيِيف أو الابتلاع. يتحقَّق هذا برَفع الأصوات، وإثارة المخاوف والشبهات، مثلما بالمُبادرة لورشةِ حُوارٍ وطنيَّة مُوسَّعة، وبدلاً من استجداء «الشرع» ورجالِه أن يفتتحوها؛ فليُفرَضُ عليهم الالتحاق بها من حالة الجُزء بين مجموع، وليس من مُنطلَق الحَكَم أو المُهيمِن على الفضاء الجامع.

لا بديلَ عن تكثيف النقد والاعتراضات، وتعلية سقف المُطالبات والأحلام، والتشدُّد فى إنجاز جدولٍ انتقالىٍّ شامل، لا ينحصرُ فى أشهُر الحكومة الثلاثة، ولا يَرتهِنُ لإرادة قائدِ الميليشيا التائب؛ ولَمَّا تتأكَّد توبَتُه بعد، مع اجتناب كُلِّ السبل الكفيلة بتكرار مآسى الأَسلَمة والتضليل والاستتباع على شاكلة أسوأ ما فى تجارب العبور بالسودان والعراق واليمن وغيرها.

يعيشُ البلدُ حاليًا حالةَ تخديرٍ وَرديَّة؛ فقد أُزِيحَ نظامٌ عتيد، وانفتَحَتْ الساحةُ على كلِّ الاحتمالات. إحسانُ الظنِّ مطلوب، والتوجُّس أيضًا، بقَدر ما يتوجَّبُ الوعى بأنَّ شهرَ العسل لن يدوم.

ربما ينتهى بشجارٍ بين الزوجين، أو يمتدُّ بُمراوغةِ أحدهما وصبرِ الآخر؛ لكنَّ الحياةَ لن تستمرَّ على لونٍ واحد، والمرارة آتيةٌ فى كلِّ الأحوال. المُهمُّ أنْ يكونَ الجميعُ مُتحضِّرين لها، وقادرين على احتوائها، وجاهزين بالبدائل التى لا تُوقِعُ الطلاق، أو تتخطَّاه؛ إن كان إجباريًّا، بأقلِّ الأضرار.

من المُستحيل الوصول لوفاقٍ كامل؛ إنما ليس البديل أنْ يتغلَّب طَرَفٌ على آخر فى كلِّ الخلافيَّات. إن بُنِيَت فاتحةُ الانتقال على ركائز رُخوةٍ فلن يكتمِلَ، وإن تصلَّبت بما يزيدُ عن اللازم فسينتهى لشموليَّةٍ جديدةٍ بغلافٍ مُغاير.

والخطرُ هُنا أنَّ فريقًا ينطلقُ من موقعِ هيمنةٍ كاملة، ويتسانَدُ لسلاحه وحاضنته الإقليمية الداعمة، وتُدَارُ لصالحه عمليَّةُ تسويقٍ كثيفة ومُعقَّدة، بينما تبدأ بقيَّةُ الفِرَق من الصفر تقريبًا: منزوعةَ البأس، وعاريةً من الإسناد، وليس فى حوزتها إلَّا مواجع عقودٍ ماضية، وهى بقَدر ما تُحفِّزها على التغيير؛ فقد تُجبرِها فى ساعةِ غفلةٍ على قَبولِ بديلٍ رَدىء؛ لمُجرَّد أنه أقلُّ سوءًا من السابق.

الكُردُ سيكونون أوَّلَ الضحايا غالبًا؛ لأنَّ واشنطن استنفدَتْ ورقتَهم، ويبدو أنها دخلَتْ شراكةً مع الرَّاعى العُثمانىِّ فى سوريا الجديدة، تجمعُهما روابطُ الناتو، وعداوةُ إيران، بينما يبحثُ الأوَّلُ عن غلافٍ أكثر مُطاوعةً لإسرائيل، ويتطلَّعُ الثانى لوراثة تَرِكَة الشيعيَّة المُسلَّحة، واستعادة الإمبراطورية الغابرة.
الاحتضانُ الغَربىُّ للجولانى يُقلِقُ، ومُلاعبتُه بورقةِ التصنيف والعقوبات تُبشِّرُ بسياسةٍ خارجيَّةٍ ستتأسَّسُ على ضعفٍ واختلالاتٍ بُنيويَّة عميقة. الدخولُ من ثغرة الميليشيا يُسهِّلُ إرساءَ دولةٍ مطعونة فى شرعيَّتها طوالَ الوقت، و»فَكُّ رقبة» القائد من قَيد المكافأة مُقدَّمةٌ لاحتوائه مع السياق بكامله، ولتأبيد حالة الوصاية مُباشرةً أو من خلال الوكيل البديل عن إيران.

والمناخُ على حالتِه يكشفُ عن تناقُضٍ وانتهازيَّة، وعن مُيولٍ نَفعيَّة أبعد ما تكون عن خطاب القِيَم والإنسانية والقانون؛ لكنها تُوطِّئُ فى الوقت ذاتِه لاحتمال أنْ تنشغِلَ دمشقُ الجديدةُ بإرضاء الخارج، وأنْ تظلَّ فى قَفَص الترويض، وتُحافِظَ على تلك الميثاقيَّة فى بنائها للنظام، بحيث تستمرُّ توازُناته المُرادَة؛ ولو تقبَّل القادةُ الحاليون إزاحةَ الصناديق لهم لاحقًا، أو أزاحَتْهم موجةٌ ثوريَّةٌ ثانية؛ بافتراض أنها ستكونُ قادرةً على هذا، ولن يُحوِّلها المُتسلِّطون الجُدد لجولةٍ إضافيَّة من الاحتراب الأهلىِّ.

لا ضررَ فى تعاونيّة «غَسْل السُّمعة»؛ إلَّا بقَدر ما يُرافقُها من مُحاولاتٍ غير بريئة للتمكين، وافتئاتٍ على سوريا بحاضرِها الهَشِّ، ونسيجِها شديد التعقيد.
مُفارقاتُ واشنطن ليست جديدةً عليها؛ إنما يُستحسَنُ أنْ يتحسَّب لها السوريِّون، وألَّا يشتروا بدمِهم وأمانيِّهم الغالية ما تورَّط  فيه آخرون قبلَهم.
فارقُ الانتقال عن الاحتيال، أنْ يكونَ القرارُ بكاملِه داخليًّا خالصًا، ومن حَيِّز التكافؤ الموضوعىِّ بين المُكوِّنات، وألَّا يُحمَلَ على سلاحٍ أو مُعتقَدٍ، ولا حاضنةٍ قريبة أو بعيدة، شرقيَّة كانت أم غربية.

الشعبُ السورىُّ قادرٌ على تمثيل نفسِه؛ لكنَّ خُصومَه عُتاةٌ فى الحِيَل والاحتيال، والخديعةُ قد تَمرُقُ من تحت المِنخَار، كما يقولُ الشَّوامُ أنفسُهم، ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها.

قُدِّم البعثُ بجناحيه قديمًا كطوق نجاةٍ، واحتُفِى به من العمّ سام قبل أن يصير شيطانًا كبيرًا أو صغيرًا. فى حلف بغداد، أو دعم حافظ الأسد لإيران ضدّ العراق، وتمكينه من لبنان، ثم مُغامرة صدَّام فى الكويت.. لَعِبَ الطرفان فى الحظيرة الأمريكية حينًا، وطُرِدا منها أحيانًا.

«الجولانى» يعيشُ اليومَ فصلَ التقريب، وتضعُ واشنطن كلَّ خبراتها فى التآمر وتمرير الفخاخ؛ لأجل تعويمِه ومنحه صِفَة القيادة لحالةٍ بعثيَّةٍ بنكهة أُصوليَّة، ويجب ألا يُلدَغَ المنكوبون من ذات الجُحر مَرّتين، ولا أن ينتظروا موعِدَ الإبعاد على ساعة واشنطن أيضًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة