عقيدة «التثليث عند المصريين»، مقدسة، وتسبق عصر الأسرات، ورغم الاختلاف فى تفسيرها على الوجه الصحيح القاطع، إلا أن المصرى القديم تبنى فكرة الثالوث، أى اتحاد ثلاثة عناصر مكوِنة وحدة واحدة، والعناصر الثلاثة إما أن تكون من نفس النوع، أو مختلفة، مثل ثالوث إله الشمس «رع - خبر - آتوم»، وذلك فى الدولة القديمة، والثالوث الإلهى « بتاح - سوکر - أوزير» فى الدولة الوسطى، أما فى الدولة الحديثة كان الثالوث الذى ذكره كتاب الموتى هو «أوزير - وحورس اليوم - وحورس الغد»
ورقم ثلاثة، أو التثليث، صار عقيدة مقدسة فى كل مناحى الحياة عند المصريين القدماء، فى الدين والعمارة والعمران والسياسة والحياة الاجتماعية، وجُسد فى نهج ومشاهد مصورة، مثل أن كل شخصين بينهما خلاف وخصام، شخص ثالث يحاول أن يصلح بينهما، مع التأكيد على أن هذه العقيدة انتشرت فى معظم الحضارات اللاحقة، للحضارة المصرية، الأشورية والرومانية، وأيضا ظهرت فى الأديان المختلفة، السماوية منها والأرضية مثل الهندوسية، على سبيل المثال لا الحصر.
وهناك شواهد أثرية لا حصر لها تتحدث عن الثالوث «التثليث» ورقم 3 المقدس عند المصريين، منها: «تمثال الثالوث المقدس» والذى اكتشف عام 1881 فى منطقة تل بسطة، بمحافظة الشرقية، ومصنوع من الحجر الجرانيت، ويصور أشهر ثالوث فى مصر القديمة «أوزوريس وعن يمينه زوجته إيزيس وعن شماله ابنه حورس» وهو ثلاثى الخير والحب والنماء.
ولتفسير الظاهرة، فإن هناك نظريات معتبرة لباحثين فى التاريخ، تذهب إلى أن فكرة التثليث، وهى دمج ثلاثة عناصر فى بعض، لعبت دورا سياسيا يتعلق بالوحدة، والتماسك ونبذ الفرقة، والدليل أن مؤسس الأسرة الأولى، الملك نارمر «مينا» قاد فكرة الوحدة بين مصر العليا والسفلى، واستمرت مصر موحدة متماسكة صاحبة حدود واضحة ومعلومة منذ فجر التاريخ.
كما أن مصر دولة زراعية فى المقام الأول فإن ارتباط شعبها بالأرض، يفوق ارتباط أى شعب آخر على هذا الكوكب، وصارت الأرض مقدسة، وترتقى لمرتبة العِرض والشرف، ومن هنا كانت فكرة تأسيس جيش قادر على الدفاع والتضحية بالروح والدم عن هذه الأرض، وصارت «الأرض والشعب والجيش» ثالوثا مقدسا، يمثل عمق الحضارة المصرية، وقوة وحدة وتماسك نسيجها الاجتماعى، واندثار القرقة والطائفية.
ولقيمة هذا الثالوث المقدس «الأرض الشعب الجيش»، الضارب بجذوره فى أعماق التاريخ، فإن الراحل الدكتور رؤوف عباس، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، والأستاذ الزائر لعدد من أعرق الجامعات، مثل جامعة طوكيو اليابانية، والسوربون الفرنسية، وهامبورج الألمانية، وكاليفورنيا الأمريكية، وغيرها من الجامعات، بجانب رئاسته للجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ عام 1999 وحتى وفاته سنة 2008 والحاصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية، له دراسة رائعة عن «السياسة والحكم فى مصر» منذ تاريخها القديم، حتى حكم أسرة محمد على، فى التاريخ الحديث، أوضح فيها أن عظمة مصر تتكئ على أنها الدولة الوحيدة التى توصلت لأقدم شكل للسلطة المركزية قبل 32 قرنا من الزمان.
وألمح الدكتور رؤوف عباس فى دراسته القيمة، إلى فكرة ثالوث مصر المقدس «الأرض الشعب الجيش» بشكل وتفسير مختلفيم ومتميزين، حيث أكد أن «الأرض» هى رمز الخير والنماء والحياة الكريمة للمصريين «الشعب» وأن الأمن والأمان والاستقرار يتمثل فى «الجيش» القادر على حماية هذه الأرض، وأن السلطة المركزية معنية بإدارة الأمر، لاستقرار المجتمع.
لذلك لا خوف على مصر التى تمتلك ثالوثا مقدسا، قادرا على مجابهة المخاطر، ورد العدوان، وتأديب كل من تسول له نفسه الاقتراب من حدودها، لذلك هى نعمة منحتها الأقدار على مصر، بأن أراضيها مقدسة، وشعبها يقف ما بين الأرض والجيش، شامخا بأن أرضه مقدسة لا يمكن أن يدنسها عدو محتل مستعمر، وأنه يقف خلف الجيش، ويعلم مقداره وتاريخه المنقوش على جبين الزمن، ومحفور على جدران المعابد والمقابر وباقى الشواهد الأثرية، تسرد بطولاته، داخل البلاد وخارجها، وأن أول شاهد أثرى يعود للأسرة الفرعونية الأولى، كانت صلاية نعرمر، تسجل جيش مصر يقوده الملك مينا، وهو يقهر الأعداء، ويعيد توحيد البلاد.
نعم، التاريخ القديم والحديث والمعاصر، ملىء بالقصص والعظات عن دور الجيوش فى استقرار الأوطان المختلفة، ومنها القصص المرعبة والمزعجة التى تحدثنا عن مخططات تفكيك الجيوش، فكل البلاد التى نجحت فيها مخططات تفكيك جيوشها وأجهزتها الأمنية، اُستبيح أمنها، وانهار استقرارها، وانزلقت أقدامها فى مستنقعات الفوضى، والقتل والتخريب والدمار، وساد الخوف والرعب شعوبها، ولم تقو على البقاء، وفر الملايين منها فى دروب الصحارى وعبر ركوب البحار، بحثا عن اللجوء للدول المجاورة، فكان المصير سيئا، منهم من لقى حتفه، ومنهم من عاش ذليلا كسيرا محطما فى مخيمات اللاجئين.
التاريخ يؤكد أهمية الجيوش القوية فى الدفاع عن الأوطان، وصيانة الأمن القومى بمفهومه الشامل، واعتباره عمود خيمة كل وطن، لذلك لا غرابة أن تجد أكبر قوة على سطح الأرض حاليا، هى الولايات المتحدة الأمريكية، تمتلك جيشا قويا جرارا، له سمعته العالمية، وكذلك الصين وروسيا، وكل دولة متقدمة ومزدهرة لا بد من قوة كبيرة تصون أمنها واستقرارها.
من هنا كانت فطنة القيادة الحالية، وقراءتها للمشهد فى المنطقة، واستشراف، المخاطر الجسيمة التى تهدد أمن الإقليم برمته، مبكرا، وسابق بمراحل، لقدرات هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم، خبراء استراتيجيين، فأعدت العدة، بخطط تأهيل وتطوير الجيش المصرى، تسليحا وتدريبا، وصار صاحب قدرة وكلمة مسموعة، يخشاه الجميع، ولا تخطئه حسابات مهما كانت معقدة، فهو الرقم الصحيح والفاعل فى معادلة توازن القوة.
وسيبقى الثالوث المقدس «الأرض الشعب الجيش» عنوان قوة وأمن وأمان واستقرار مصر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة