في زمنٍ تتقاذف فيه الأصوات، وتتنازع فيه الأنغام، خرج صوتٌ ينساب كنسمةٍ من الجنة، يطوف بالقلوب، ليعيدها إلى رحاب الطمأنينة، إنه عبد الباسط عبد الصمد، الرجل الذي لم يكن قارئًا للقرآن فحسب، بل جسّد بصوته معنى "الآية" في الإعجاز والجلال.
الشيخ عبد الباسط ليس مجرد اسم، بل تجربة سماعية لا تُنسى، يأخذك فيها من أوجاع الأرض إلى أفق السماء، كان صوته أشبه بمركبٍ يُبحر بك في نهر الإيمان، فتغسل أمواجه روحك، وتعود منه خفيفًا، كأنك طائرٌ يحلق فوق الحياة.
في قرية أرمنت بمحافظة قنا، وُلد عبد الباسط عام 1927، كأنه جاء محمولًا على نسمات من الروحانية، تربى بين أروقة القرآن، حيث غرس والده الشيخ محمد صوت الإيمان في قلبه، كان قدره أن يحمل هذا الإرث، لكنه لم يكن حملًا ثقيلًا، بل كان رسالته للعالم.
الشيخ عبد الباسط ليس قارئًا تقليديًا؛ كان قيثارة ذهبية تُصدر ألحان السماء، تميّز بصوت ينساب بين الطبقات كالماء الرقراق، يأخذ المستمع من حزن البداية إلى سمو الختام، وكأنك في رحلة تتلمس فيها وجه الخلود، حين تسمعه يقرأ "الرحمن" تشعر أن الكلمات تتنفس، وأن الآيات تحيا لتُلامس شغاف قلبك، لا يمكنك مقاومة دموعك، فهي تسبقك إليه كأنها تعرف أنه سيدلّها على طريق الخلاص.
لم يكن عبد الباسط قارئًا لمصر فقط، بل كان سفير القرآن للعالم، طاف دولًا لا يعرف لغتها، لكنه لم يحتج إليها، فصوته كان كافيًا لترجمة الإيمان إلى كل اللغات، في إندونيسيا، باكستان، والسعودية، اصطف الملايين ليستمعوا له، ليصبح عبد الباسط رمزًا عالميًا لكل ما هو روحاني ونقي.
رغم رحيله عام 1988، إلا أن عبد الباسط لم يغب، لا يزال صوته يشق الهواء في المساجد، السيارات، والمنازل، صوتٌ يتسلل إلى القلوب ليعيد ترتيبها، كأنه يقول إن القرآن خالد، وإن من يخدمه يُبعث في كل لحظة حيًا.
عبد الباسط عبد الصمد لم يكن قارئًا فقط، بل كان معجزة صوتية، جسّد كيف يمكن للإنسان أن يصبح صوتًا للسماء على الأرض، صوته لا يروي آيات الكتاب فقط، بل يروي ظمأ القلوب التائهة في صحراء الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة