في ركن بورشة صغيرة تتوسط حارة خان جعفر بمنطقة الجمالية، يجلس وجيه يحيى، ككل صباح نشيطًا بملامح هادئة، وقلب مفعم بالحياة، يكافح ويسعى بكل قوة، راجيًا رزقًا حلالًا، مع صبر عظيم في كل حركة يد، يمارس حرفة يدوية عتيقة، اعتادها منذ أكثر من ستين عامًا، ممسكًا بأدوات بسيطة للتقطيع واللحام، ليصنع في النهاية أقماع الجاز، ومكاييل اللبن، "مقاييس وأوزان أهل زمان"، ومعها "أكواز" الكنافة البلدي، وحصالات حفظ النقود.
كافح "وجيه" في مهنته منذ الطفولة، وحرص على ممارستها بجانب التعليم، يقول: "اشتغلت خراط ميكانيكي، وبعدها جيت الورشة واشتغلت في الربع والنصف والقمع وكل الشغل اليدوي من وانا عندي عشر سنين، كنت أروح المدرسة وارجع على الورشة اشتغل، لحد ما اتعلمت كل حاجة، وبقيت أسمكر وأقص وأتني وأعلم، حتى لما دخلت كلية الحقوق كنت ارجع من الجامعة أكمل شغل وجمبي الكتاب أذاكر منه وانا شغال".
تمسك "عم وجيه" بمهنته، التي تأبى النسيان، ورغم تخطيه السبعين عامًا، وما أصاب المهنة من ركود لقلة العاملين بها وعزوف السوق الحديث عن منتجاتها، مازال يعمل بها بأقل الإمكانيات وبنفس همة ونشاط الشباب، والسبب "حبه للحياة" على حد تعبيره: "المهنة تتحب وأنا بحب الحياة.. صنعة كلها فن ومقاسات وجهد ومشقة، وعمري ما مليت منها.. حياتي وعمري كله فيها، وما بقاش حد دلوقتي بيشتغل فيها يدوي خالص كله بقى يتعمل على المخارط".
وبينما كانت خبطات يده المتجانسة تشدو بضرباتها المهندمة وهي تصنع قمع صغير من الصاج، ارتسمت على محياه ابتسامة خجولة، متذكرًا سنوات عمله الأولى وما تخللته من ذكريات: "أول أجرة آخدها كانت بريزة فضة، في يوم سبت بعد أسبوع شغل، من الفرحة بقيت ماشي في الشارع أقول للناس كلها، وفضلت اشتغل لحد ما بقيت باخد خمسة تعريفة، وبعدها 40 جنيه، وفي سنة 70 اخدت 50 جنيه في الأسبوع، ويوميتي دلوقتي 140 جنيه".
نشأ "وجيه" على حب القراءة، أكمل تعليمه والتحق بكلية الحقوق، متخطيًا حلم الالتحاق بكلية الإعلام، ورغم عدم استكماله تعليمه الجامعي ومواصلة مسيرته في ورشة تصنيع الأقماع والمكاييل، إلا إن الثقافة والعلم مقدسان بالنسبة إليه: "كان نفسي أدرس صحافة، ومن صغري وانا بحب القراءة وكتابة القصص، وأنا عندي 9 سنين كنت أمسك أي كتاب أقرأه وانا مش فاهم حاجة، ومع الوقت بقى عندي وعي وبقى مزاج عندي أنزل أشتري كتب من العتبة ودا ساعدني كتير على القراءة، ولحد دلوقتي بكتب قصص، والدكتور مصطفى محمود مأثر فيا أوي".
سنوات طويلة من الكفاح، لم يفارق فيها "وجيه"، الورشة، التي عمل فيها منذ طفولته وعاصر فيها أرباب المهنة، ساعيًا وراء رزقه دون كلل أو ملل ليكسب من عرق جبينه: "بنزل من البيت كل يوم الساعة 6 أوصل الورشة على سبعة ونصف، أستنى الأسطى أحمد، ونصنع القمع والربع والكوز بتاع الكنافة، وأدواتنا بسيطة مقص وشاكوش وسندان وملف بنلف عليه الشغل وتناية بتطلع الشغل مظبوط".
تعد صناعة الأقماع والمكاييل، من الحرف اليدوية التي كانت لها قيمتها ورونقها قديمًا، صمدت على مر الزمان وتوارثتها الأجيال، وتقاوم بمهارة وحرفية ممتهنيها رغم تطور الحياة وتقدم العلم والصناعات: "المهنة ما تغيرتش عن زمان، الناس اللي اتغيرت، الجد مات، والابن مات، ما افضلش غير الأسطى أحمد، ومافيش حد في مصر بيفصل الشغل ده غيرنا، الصنعة قدمت لكن لسه ليها زبونها.. شغلنا كله بيروح الصعيد، وجه قبلي، مش بيتباع هنا.. ما فيش حد هنا بيستعمل الجاز كله دلوقتي عنده بوتاجاز في البيت".
لا يتوقف "وجيه" عن المسامرة والمضاحكة كي يخفف من مشقة العمل، يتقن حرفته بما أوتي من خبرة ومِراس في ميدانه، ويكد في سبيل لقمة العيش: "إحنا ما نعرفش نقعد في البيت لو قعدنا نتعب.. المهنة كلها صعوبات، المللي فيها بيفرق.. أي غلطة في المقاسات الشغل كله يبوظ، فمراحل التصنيع بتبدأ من التفصيل والقص حسب المقاسات المطلوبة، وبعدها اللف والتقفيل واللحام، والشغل من غير الدمغة ما يتباعش".
أدوات تصنيع قمع الجاز
تصنيع قمع الجاز
صناعة قمع الجاز_1
صناعة كوز الكنافة البلدي
عم وجيه في ورشة تصنيع قمع الجاز
عم وجيه
وجيه يحيى صانع الأقماع والمكاييل
وجيه يحيى صانع قمع الجاز
ورشة تصنيع الأقماع والمكاييل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة