مها عبد القادر

اللغة العربية: تأملات في لغة الفصاحة والإعجاز والعلم والمعرفة

الجمعة، 13 ديسمبر 2024 02:03 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

اللغة العربية لغة الضاد لها تاريخًا طويلًا وثقافة غنية، ويكفي أن نتذكَّر بفخر أنها شَرُفَتْ بحمل آخِر رِسالات السماء إلى الأرض وهي لغة القرآن الكريم كتاب الله عز وجل الذي أنزل للناس كافة، وهذا الوحي هو الدستور الذي ينظم العلاقات الروحية والاجتماعية والسياسية بين الأفراد، وهذه الميزة تجعل اللغة العربية فريدة من نوعها، حيث إن الكتب السماوية السابقة كانت خاصة بأقوام معينة، بينما القرآن موجه للبشرية جمعاء بلغة أضحت عالمية، وقد اختارها الله تعالى وأنزل بها خاتمة كتبه، وجعلها لسان خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد "صلي الله عليه وسلم"، وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ القرآن وبالتالي فإن اللغة العربية محفوظة بحفظه، وهذا يضمن استمراريتها وثباتها علي مر الزمن، بالإضافة لتوطين قيمتها الروحية والدينية، حيث تُستخدم في العبادة والتلاوة والدراسة والبحث والمعاملات، ومن ثم فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وسيلة لنقل الثقافة وحاضنة للتراث، وأساس توحيد الشعوب رغم تنوع ثقافاتها.


وتُعتبر اللغة العربية من أغنى اللغات وأكثرها بلاغة فهي لغة إنسانية عالمية، تتميز بثراء وغني وجزالة وغزارة مفرداتها وأكثر قدرة على استيعاب الألفاظ الجلية، وقدرتها على التعبير عن معاني دقيقة ومعقدة بالعديد من المفردات، كما تتميز بالفصاحة والإعجاز اللغوي، ولكلماتها وألفاظها دلالات مختلفة، وهي من اللغات التي تتميز بنظامٍ تركيبي صوتي ونحوي وصرفي فريد وتتميز بمزايا عديدة تجعلها لغة متميزة من حيث نظامها اللغوي المعقد، وجماليتها الأدبية، والعمق في التعبير فهي دقيقة ومحكمة في بنية الجمل والكلمات، وتحتل مكانة عالية في الأدب والشعر ونقل الفكر والعلم بوضوح، مما يجعلها غنية بالمعاني والتعبيرات.


وقد أسهمت العربية في نقل العلوم والفلسفة والمعارف عبر العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، وحفظت لنا الإرث الثقافي والحضاري وأنتجت لنا علي مر العصور كنوزًا من الأدب والشعر والفكر، وهي لغة الإبداع والتعبير عن المشاعر الإنسانية، وكانت العربية في الماضي لغة التقدم العلمي من العلوم والفلك والرياضيات، وساهم العلماء العرب في بناء الحضارة الإنسانية من خلالها، وما زالت العربية قادرة على التعبير عن المفاهيم العلمية الحديثة، إذا تم تعريب العلوم واستخدامها في المجالات العلمية والتقنية، وهي لغة يتحدث بها أكثر من 422 مليون شخص، وهي اللغة الرسمية في 22 دولة، وتُعد من اللغات الرسمية في المنظمات الدولية ولها سياق تاريخي عميق وآلاف اللهجات التي تربط ملايين المتحدثين عبر ثقافات ومجتمعات متنوعة.


وتأتي اللغة العربية في ماضيها المجيد وتراثها العريق في مُقدِّمة اللغات التي نجحَتْ في القيام بدورها الحضاري الرَّفِيع وتاريخها حافل بالإنجازات الحضارية والثقافية، وارتقت بهذه الأمة من مجتمع الصحراء إلى قائدة الحضارة قرونًا عديدة مُتوالِيَة، وحملت آخر رسالات السماء بلغة عربية فصيحة بلسان عربي مُبِين، ومع ذلك، تواجه اللغة العربية اليوم تحديات جمة فهي في حاجةٍ إلى أن تُتذَكَّر وتستجمع قواها وتتطلب وعي أبنائها وإرادتهم للقيام بدورها الحقيقي في المحافظة على الهُويَّة ومواجهة متطلبات العصر الحديث في مجالات المعرفة والحضارة، حيث تمتلك مقومات الصحة والفتوة والجمال، وهي قادرة على استيعاب مختلف المعارف والعلوم؛ لذلك، من الضروري أن نبذل جهدًا لحمايتها ورعايتها، بدءًا من استخدامها في حياتنا اليومية وأن نكون حريصين على الاستخدام المناسب لكل مقام؛ ولا نتهاون في الدقة والتعبير.


وهي جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب الناطقة بها، وتؤثر بشكل عميق على طريقة التفكير والرؤية للعالم وهي الوسيلة التي تحفظ بها الأجيال تراثها الثقافي والتاريخي والحضاري وأداة لنقل القيم والعادات والتقاليد بين الأجيال، كما تسعي للتكامل القومي وتنمية الانتماء لدى الناطقين بها، حيث تشكل عاملًا مشتركًا يوحدهم في مواجهة التحديات الثقافية والسياسية، وتسهم في حماية الهوية القومية من التأثيرات السلبية للمتغيرات المختلفة التي تواجهها، وهي رابط حضاري وثقافي يوحد الشعوب العربية ويحفظ هويتها، والحفاظ عليها وتطوير استخدامها هو مسؤولية جماعية تتطلب اهتمام دولي وعالمي وتعاونًا بين الأفراد والهيئات والمؤسسات.


وهذا لا يأتي من فراغ فهي لغة العلم والمعرفة لعدة قرون، ويجب أن تُستعاد هذه المكانة الحيوية حتي تستعيد الأمة مزيداً من ملامح شخصيتها وهويتها، ويتحقق ذلك من خلال توطين استخدامها في مختلف مجالات الحياة، بداية من تعريب العلوم بمختلف البرامج والمناهج التعليمية بأنماط التعليم المتعددة، كما هو الحال في المؤسسات التعليمية العالمية التي تستخدم لغاتها القومية وهذا يقوي من قدرة الطلاب على فهم المحتوى العلمي واستيعاب المعارف الحديثة وحفظ هويتهم الثقافية، مما يساعد في تطوير البحث العلمي، مع استخدام أساليب تعليمية حديثة ومبتكرة مثل الألعاب التعليمية والمشروعات الجماعية يمكن أن يجعل تعلم اللغة العربية أكثر متعة جاذبية للطلاب، لضمان مستقبل مشرق يتماشى مع تطلعات الأجيال القادمة.


وبشكل منهجي يُساعد استخدام اللغة العربية في الإعلام بتفعيل استخدامها وممارساتها بالحياة اليومية؛ فالتواصل باللغة الأم يعزز من العلاقات الاجتماعية ويزيد من فعالية التعبير عن الأفكار والمشاعر ويقلل من الفوضى اللغوية السائدة مما ينعكس علي تأكيد الهوية الثقافية، كما ينبغي أن تكون اللغة جزءًا من المعاملات، مما يُوكد مكانتها حيث إن إتقانها يفتح أمام الأفراد فرص عمل واسعة في مجالات متعددة مثل الترجمة، الصحافة، والتدريس، والإعلام والخطابة، والدعوة، مما يسهم في تنمية الاقتصاد المحلي، فمن خلال هذه الخطوات، يمكن للغة العربية أن تستعيد حيويتها وتحفظ الهوية الثقافية للأمة وتوطن المعرفة بشكل حقيقي وفعال. 


وجدير بالذكر أن استرداد اللغة لمكانتها وحيويتها، لا يقتصر على الجانب اللغوي فحسب، بل يمتد ليشمل الثقافة والفكر والإبداع؛ فعندما تُستخدم اللغة بشكل فعّال في مجالات العلوم والفنون والآداب، تتفتح آفاق جديدة، وتتُفجر قدرات وطاقات الأفراد للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، مما يسهم في بناء مجتمع مبدع وقادر على الابتكار والتكيف ومواجهة التحديات المعاصرة، وبهذا الشكل، يمكن أن تتحقق نهضة حقيقية تُعيد للأمة العربية مكانتها في مجالات المعرفة والثقافة والعلوم، وتُرسخ وتحفظ هويتها في عالم يتسم بالتنوع والتعددية.
______
أستاذ أصول التربية

كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة