لم يتفق الباحثون ـ فى حقل النقد الأدبى ـ على تعريف محدد للأسطورة، فآراؤهم فيها جد متباينة، ليس فقط تعريفا بل وتفسيرا وتقسيما، بما يضع البحث عن هذا الجانب أمام بداية مبشرة بالجهد، فهى تقنية "غير متفق" على ماهيتها، وكل محاولات تحديدها دارت حول محيطها دون النفاذ إلى جوهرها، لتأتى مفتقرة إلى الصفة "الجامعة المانعة"، كمحاولة د.إبراهيم حمادة فى كتابه "من حصاد الدراما والنقد"، عندما اعتبرها "أصداءً لحقائق تاريخية فردية موغلة فى القدم، أو رموزا خفيّة للمعانى، وتشير إلى حقائق فلسفية عميقة وثابتة، أو اعتبارها انعكاسات للظواهر الطبيعية"، أو التعريف الذى ساقه د. شفيع السيد فى كتابه "اتجاهات الرواية العربية في مصر" بقوله أنها: "قصة خيالية بعيدة عن منطق العلاقات الواقعية بين الأشياء، وشخوصها لا ينتمون إلى عالم الأسوياء"، فهذا التعريف ـ والذى سبقه ـ تدخله قوالب سردية أخرى كالسرد الغرائبى والأحلام وشىء من القصص الشعبى، وأيضا لم ينجح التعريف "العلمانى" بتقريره لها ملاذا للإنسان يحدث بها التوازن والتوافق مع البيئة والكون ويلتمس بها التفاسير المقنعة لما لا يفهمه من ظواهره، فقد ركّز على نشأتها والسبب الوظيفى لبقائها، وليس "ماهيتها"، فضلا عن كونه يثير الجدل بإدراجه التراث الدينى ضمنها.
أما التعريف اللغوى فى معاجم اللغة فقد خلط ـ بوضوح ـ بينها وبين الخرافة، فهى فيه: "الخرافة والحكاية ليس لها أصل" و"الكلام المستملح المكذوب" ما يعطى الجنسين مدلولا واحدا.
ويختلف "الشكل الأدبى" من الأسطورة عن الشكل التسجيلى منها، فالأول يتطلّب تدخلا يأخذ منها ويضيف إليها لربطها بدلالات جديدة، فضلا عن الكشف "عن غنى المخيلة البشرية فى تكوينية العلاقة بين الحقيقة والخيال، والحس الميتافيزيقى"، كما يقول د. جميل قاسم فى كتابه القيم "ما المايثولوجيا".
وقد استخدمت الرواية العربية عامة والمصرية خاصة هذه التقنية بشكل دلالى ناضج، فنجد جيل الرواد يستخدمها، ومنهم: "لويس عوض" فى "العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح" (1966)، والفذ نجيب محفوظ الذى وظفها فى كثير من رواياته، كأسطورة "إزيس وأوزيريس" في "كفاح طيبة" (1944)، وهى الأسطورة التى استنطقها عدد كبير من الأدباء منهم توفيق الحكيم، و"عبدالحميد جودة السحار" وغيرهم.
كما استخدم جيلا الستينيات والسبعينيات الأسطورة بكثافة توحى بإدراكهم لقيمتها الفنية، من الجيل الأول: جمال الغيطانى، ويوسف القعيد، والأخير حظيت روايته "بلد المحبوب"(1987)، ببحث أكاديمى مستقل بجامعة الإسكندرية بعنوان: الأسطــورة في رواية "بلد المحبوب"، سلط الباحث فيه الضوء على غنى العمل بالأساطير ذات الطابع القومى، ومنها أسطورة "عروس النيل"، و"إيزيس وأوزوريس"، ومن الجيل الثانى (السبعينيات) يتقدم يوسف أبورية كأحد أبرز من وظّف هذه التقنية، فنسج على منوالها "عاشق الحى" (2005)، التى قدم فيها اعترافا ـ بلسان الراوى ـ بلجوئه للقالب الأسطورى هروبا من "عجز اللغة" فى التعبير، فالراوى الذى يعانى أزمة نفسية بغياب زوجته فى الخليج طلبا للمال، يقول: "إنى أضيق بنفسى حين أعجز عن التعبير.. لغة الأجداد القاحلة.. لم تحفل أبدا بنفوس البشر الأحياء إلا فيما ندر... أريد أن أحيل هذه اللغة إلى ماء سلسبيل أنفخ فيها من روحى، لتندفع موجاته إليك تيارا إثر تيار.. أريدها مطابقة لعوالم الأحلام بكل تأثيرها وتجسيدها " (158و159/عاشق الحى)، كما خلط الأسطورة بالواقعية السحرية فى روايات: "صمت الطواجين"(2007)، و"الجزيرة البيضاء"(2000)، و"تل الهوى"(1999)، و"عطش الصبار"(1998).
لقد نجحت هذه التقنية دوما فى منح النص العمق والأصالة معا، الأول بحملها الدلالى الغنى والثانى بتضفيرها العمل الأدبى بالتراث والفلكلور وربط ماضى الإنسان بحاضره، ومن ثمّ فهى واحدة من أرقى ضروب التعبير، ولا جرم فى هذا، فهى التى تحرر المبدع من أسر اللغة والمنطق وقيود الزمان والمكان، وتجنبه التقريرية القاتلة للتعبير الأدبى. ليتجاوز المبدع بها أطر التعبير المحدودة، ويتشكل عالمه السردى من نمط غير تقليدى بالمرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة