هنا.. "الجيارة" في قلب حي مصر القديمة بالقاهرة، حيث تُعد من أقدم المناطق السكنية في العاصمة، وعلى مر العقود، شهدت هذه المنطقة تحولات جذرية، بدءًا من كونها مركزًا لتجارة المخدرات إلى أن أصبحت نموذجًا للتطوير الحضري مؤخرًا.
ونحن نتجول، بين أزقتها القديمة ومشروعاتها الحديثة، تروي الجيارة قصة شعب لا يموت، وتظل رمزًا لقدرة الأماكن على البقاء نابضة بالحياة، مهما تغيرت الظروف.
على ضفاف التاريخ، وفي قلب القاهرة القديمة، تقبع الجيارة كصفحة متشابكة التفاصيل في كتاب العاصمة الذي لا ينتهي.
هنا.. حيث تقف أقدامنا بالجيارة، تلتقي الأزقة الضيقة بروائح الحرف القديمة، وحيث يقف الزمن حائرًا بين أطلال الماضي وصخب الحاضر، تتجلى الجيارة كمكان يروي حكاياتها من كل زاوية، مع كل حجر وكل شجرة.
مواطن يسرد تاريخ الجيارة
ملامح المكان
تبدأ الحكاية عند مداخل الجيارة، حيث تلوح للعين بيوت متراصة كأنها تعانق بعضها خشية الانهيار، وجدران شاحبة تحمل ندوب الزمن، هذه الأزقة، التي بالكاد تتسع لمارة أو اثنين، تموج بضحكات أطفال يجرون خلف كرة من القماش، أو نساء يتبادلن الأحاديث على أعتاب المنازل.
في الجيارة، تبدو الحياة كأنها مشهد سينمائي متكرر: بائع الفول الصباحي ينادي على زبائنه، عربة الكارو تجر أحمالًا ثقيلة من الخضروات، ورجل مسن يجلس في ركن هادئ يدخن الشيشة وينظر إلى المارة كأنه يقرأ ماضيهم في وجوههم.
أحد أهالي الجيارة
تاريخ حيّ لا يموت
عُرفت الجيارة منذ عقود كواحدة من أكثر المناطق تميزًا بعمقها التاريخي والاجتماعي، كانت مركزًا للصناعات البسيطة والحرف التقليدية التي انتقلت من جيل إلى جيل، إلا أنها شهدت أيضًا أوقاتًا عصيبة، في السبعينيات والثمانينيات، تحولت الجيارة إلى وكر لأنشطة غير مشروعة، مثل تجارة المخدرات، ما جعلها محط اهتمام الأجهزة الأمنية لفترة طويلة.
مع ذلك، لم تفقد المنطقة هويتها الأصيلة، كانت هناك دومًا عائلات تحافظ على شرف المهنة، وأبناء يدرسون تحت أضواء المصابيح الخافتة ليهربوا من واقع فرضته الظروف.
أحد المواطنين من الجيارة
ملامح الحياة الاجتماعية
الجيارة ليست مجرد حي؛ إنها أسرة كبيرة، هكذا تحدث "عم أحمد" أحد سكان المنطقة، هنا، يعرف الجميع بعضهم البعض، في الأفراح، يتزين الحي بأضواء ملونة، وتصدح أغاني المهرجانات في كل زاوية، وفي المآتم، يصطف أهل الجيارة لتقديم العزاء كأنهم فقدوا فردًا من عائلتهم.
المرأة في الجيارة هي محور البيت والمجتمع، تُرى النساء وهن ينسجن الحياة اليومية بخيوط الصبر والكفاح، يدفعن بعربات صغيرة لبيع الحلويات، أو ينظمن الأسواق التي تعد شريان حياة للمنطقة.
تاريخ الجيارة
في السبعينيات، كانت الجيارة تُعرف بأنها معقل لتجارة المخدرات ، وفقا لحديث "محمد عبد الرحمن" أحد سكان المنطقة معنا، حيث برز فيها العديد من أباطرة المخدرات، وكانت المنطقة تشهد نشاطًا مكثفًا لتوزيع الحشيش والأفيون، مما جعلها بؤرة جذب للعديد من المدمنين والتجار، هذا النشاط غير المشروع أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية والاجتماعية في المنطقة.
"كتكت" إمبراطور الحشيش في الجيارة
أحد أشهر الأسماء التي ارتبطت بتاريخ الجيارة هو محمد عبدالعال، المعروف بلقب كتكت. هذا الاسم الذي كان يُرهب الجميع، سواء داخل المنطقة أو خارجها، حيث بدأ كتكت حياته كعامل بسيط، لكنه سرعان ما تحول إلى واحد من أكبر تجار الحشيش والأفيون في مصر.
واعتمد كتكت على شبكة واسعة من الموزعين المحليين، وضمان الحماية عبر استمالة بعض الشخصيات المؤثرة داخل المجتمع المحلي.
وتشير تقديرات إلى أن ثروته في أوج نشاطه تجاوزت ملايين الجنيهات، وكان يمتلك عقارات وسيارات فارهة داخل وخارج الجيارة.
تجارة المخدرات في الجيارة
في ذروة نشاطها، كانت الجيارة تُعد المصدر الأساسي لنسبة كبيرة من الحشيش والأفيون في العاصمة، ففي تقارير صادرة عن وزارة الداخلية خلال الثمانينيات، تم ضبط ما يقرب من 40 طنًا من المخدرات في مداهمات استهدفت المنطقة.
وتشير بيانات غير رسمية إلى أن 50% من السكان البالغين في الجيارة كانوا على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتجارة المخدرات، سواء كتجار، موزعين، أو متعاطين.
سقوط أباطرة المخدرات
لم يكن كتكت وحده، بل ظهرت أسماء أخرى مثل الطرش والحوت، الذين أسسوا شبكات تجارة مخدرات معقدة، ومع ذلك، فإن حملة أمنية مكثفة في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة نجحت في الإطاحة بكبار التجار، ما شكّل نقطة تحول في تاريخ المنطقة.
ضربات أمنية
بدأت الأجهزة الأمنية بجمع المعلومات على مدار سنوات، معتمدين على زرع مخبرين محليين داخل الشبكات الإجرامية، وفي واحدة من أكبر العمليات الأمنية نجحت في ضبط 5 أطنان من الحشيش، واعتقال 25 تاجرًا في ليلة واحدة.
جهود وزارة الداخلية
لم تقف وزارة الداخلية مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي، حيث بدأت الأجهزة الأمنية في تنفيذ حملات مكثفة للقضاء على تجارة المخدرات في الجيارة، وتمكنت من إلقاء القبض على العديد من التجار والمروجين، مما أدى إلى تراجع كبير في نشاط تجارة المخدرات بالمنطقة، بالإضافة إلى ذلك، تم تعزيز الوجود الأمني وتكثيف الدوريات لضمان استقرار الأوضاع الأمنية.
انخفاض الجريمة
"لن تكون الجيارة وكرًا للجريمة مجددًا"، هذا ما أكده مسؤول أمني خلال تصريحات صحفية عام 2005، فالإحصائيات بين عامي 2010 و2020، أكدت انخفاض نسبة الجرائم المرتبطة بالمخدرات في الجيارة بأكثر من 70%.
التطوير الحضري
في إطار خطة الدولة لتطوير المناطق العشوائية، بدأت محافظة القاهرة في تنفيذ مشروع لتطوير منطقة الجيارة، حيث تم نقل 1660 أسرة من المنطقة إلى وحدات سكنية مجهزة في مشروع "أرض الخيالة"، الذي يضم 2268 وحدة سكنية متكاملة الخدمات، وتتضمن هذه الخدمات مدارس، مراكز صحية، ومناطق ترفيهية، مما يضمن توفير حياة كريمة للسكان، هذا المشروع يُعد جزءًا من جهود الدولة للقضاء على العشوائيات وتحسين جودة الحياة للمواطنين.
وتُعد قصة منطقة الجيارة مثالًا حيًا على قدرة الدولة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة، من خلال جهود وزارة الداخلية في مكافحة الجريمة، ومشاريع التطوير الحضري، حيث تُظهر مصر التزامها بتحسين حياة مواطنيها وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للجميع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة