انتصار كبير حققه الرئيس المنتخب دونالد ترامب، يستلهم قيمته من العديد من المعطيات، أبرزها الفارق الكبير نسبيا في الأصوات التي حصل عليها في المجمع الانتخابي عن منافسته الديمقراطية، كامالا هاريس، بالإضافة إلى تفوقه في التصويت الشعبي، وهو ما يعكس ما يمكننا تسميته بـ"التفويض" الداخلي الذي تحقق عبر الصناديق الانتخابية، لتحقيق حالة من الإصلاح، من شأنها مواكبة التغييرات الكبيرة التي يشهدها الداخل، جراء أوضاع اقتصادية غير معتادة على خلفية التضخم، والزيادة الكبيرة في أعداد المهاجرين، وهي القضايا التي تبدو جوهرية في اختيارات الناخب في الولايات المتحدة، بينما في اللحظة ذاتها يشهد النظام العالمي تغييرا جوهريا، بدا فيه النفوذ الأمريكي يتقلص لصالح قوى أخرى صاعدة، على غرار الصين وروسيا، وهو ما بدا في العجز الأمريكي عن حل أزمات عالمية، على غرار أوكرانيا، وغزة، وتداعياتهما المترتبة على أحوال المواطن الأمريكي.
وبالنظر إلى النتائج التي آلت إليه الانتخابات الأمريكية نجد أن تفوق ترامب في الانتخابات الثالثة التي يخوضها، يبدو غير مسبوق، ففي الأولى انتصر على هيلاري كلينتون بأصوات المجمع الانتخابي، بينما خسر التصويت الشعبي، في حين خسر الثانية أمام بايدن، وهو ما يعكس أن ثمة اختلاف كبير في نظرة المواطن الأمريكي وتقييمه لما شهدته واشنطن خلال 9 سنوات، منذ ولاية ترامب الأولى، ثم ولاية بايدن، وإدراكه للحاجة الملحة للإصلاح، الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال رئيس ذو نكهة شعبوية بعيدا عن نمطية الأحزاب في الولايات المتحدة.
ومفهوم "الإصلاح" لا يبدو مألوفا عند الحديث عن أمريكا، في ضوء الصورة التي دأبت واشنطن على تصديرها، باعتبارها نموذج الديمقراطية العالمية، والتي امتدت لتكون بمثابة البوتقة التي تذوب في داخلها نختلف الثقافات والأديان والأعراق، في ظل ما تحظى به من انفتاح شامل، يقوم على حزمة من الحريات، بدءً من حرية التجارة، مرورا بحرية التعبير، وحتى حرية الحركة، وهو ما تمكنت من تصديره إلى حلفائها في أوروبا الغربية، عبر الاتحاد الأوروبي، وسعت إلى تعميمه عالميا، في العديد من مناطق العالم، عبر العديد من الأدوات التي ترواحت بين الترغيب عبر منح المزايا، والترهيب، عبر العقوبات تارة وحتى التدخل العسكري تارة أخرى.
إلا أن الواقع الحالي، والمرتبط بجوهره بالعديد من الأزمات، ربما يفرض إعادة هيكلة للداخل الأمريكي، مع توجيه بوصلة سياساتها الخارجية مجددا، فيما يمثل في مجموعة حالة "الإصلاح" المنشودة، والقائمة على قدر من ترويض الحريات الثلاثة المذكورة، مع العمل على تقييد التدخل الخارجي، والقائم في الأساس على تحقيق المصالح الأمريكية، وفي القلب منها مصلحة المواطن، عبر إنهاء الأزمات التي تمسه وتمس مصالحه بشكل مباشر، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تعزيز الخطاب الانتخابي للرئيس المنتخب، خاصة عند حديثه عن قضايا على غرار الهجرة، والتي تمثل أحد أهم صور الانفتاح الذي سعت واشنطن إلى تصديره إلى العالم خلال عقود طويلة من الزمن، وتحديدا منذ بزوغ نجمها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ولعل القبول الذي لاقاه الخطاب الانتخابي لترامب، وإن كانت الانتخابات الرئاسية شأنا داخليا بحتا، فإنه لاقى كذلك قبولا شعبويا عالميا، يضاهي في جوهره ما لاقته الديمقراطية، إبان ذروة التبشير بها، من قبل شعوب العالم، وهو ما يجد تفسيره في الرغبة العارمة لدى شعوب الكوكب في وضع نهاية للحروب التي تشهدها الكرة الأرضية، سواء في أوروبا الغربية، والتي يتوق مواطنوها إلى إنهاء الأزمة في أوكرانيا، خاصة بعدما آلت إليه من تداعيات، تلامست مع قطاعات حيوية تمس حياتهم اليومية، على غرار الغذاء والطاقة، أو شعوب الشرق الأوسط، التي تضع نصب أعينها إنهاء الحرب الراهنة، ومنعها من التفاقم، كأولوية قصوى، بينما لا ترغب في تكرار تجربة التداخل في شؤونها الداخلية تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، في ضوء ما آلت إليه السنوات الماضية من دمار وفوضى، طالت كافة شعوب المنطقة، جراء هذا التدخل.
ربما يعي الكثيرون أن الدور الأمريكي في القضية المركزية في الشرق الأوسط، لن يتجاوز الثوابت القائمة على دعم إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بمفاوضات الحل النهائي، إلا أن هذا لا يمنع قدرة ترامب على وقف الحرب، سواء بصفقة مباشرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أبى أن ينهي الحرب في ظل الإدارة المنتهية ولايتها، لخدمة صديقه، أو من خلال الضغط عليه حال مواصلة نهجه المتعنت، وهو ما يخدم أولوية الشعوب القصوى في اللحظة الراهنة، في حين يبقى الأمل فيما يتعلق بالمفاوضات في الدور الذي ستلعبه القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وفي القلب منها مصر، مع صعود الدور الذي قد تلعبه القوى الأخرى التي تسعى لمزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، في دعم الحق الفلسطيني.
الحالة العالمية المتجاوبة مع خطاب الرئيس المنتخب في الولايات المتحدة، تخلق ما يمكننا تسميته بـ"الترامبية" العالمية، والتي ربما تعيد إلى واشنطن قدر كبير من الزخم في قيادة العالم، في ضوء ما تحظى به من مرونة في إدارة علاقتها مع العالم الخارجي، بعيدا عن فرض نماذج نمطية في شكل الحكم وطبيعته في الدول الأخرى، بينما تساهم بصورة كبيرة في خلق حالة من الانتقال العالمي السلمي من حقبة الأحادية إلى أخرى تعددية، لا تستبعد أمريكا من القيادة العالمية، وإنما تسمح بصعود قوى أخرى يمكنها القيام بدور في حل الأزمات العالمية.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية، يمثل نقطة تحول استثنائية، تتجاوز كونه الرئيس الثاني في تاريخ أمريكا الذي يحصل على ولايتين غير متتاليتين، أو انتصاره الساحق على كل صعيد المجمع الانتخابي أو التصويت الشعبي، بل وتجاوزه إلى حالة أشبه بالدعم العالمي، لتصبح الحالة الترامبية في بزوغها أشبه بتلك بالديمقراطية، التي سعت إلى واشنطن إلى تصديرها للعالم على مدار عقود طويلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة