من مَأمَنِه يُؤتَى الحَذِر. ربما لا شىءَ يُلخِّصُ المشهدَ الإقليمىَّ المُشتعلَ أكثر من هذا القول المأثور، وبالنسبة لكلِّ الأطراف المُتشابكة ميدانيًّا على حدٍّ سواء. إسرائيلُ بُوغِتَت من جانب غزَّة وكانت تتوهَّمُ أنَّ حماس تحت سقف الردع، والحركةُ تحصَّنَتْ بورقة الأسرى بعد «طوفان الأقصى»، فكانت نقطةُ قوَّتِها نفسُها الحافزَ الأقوى على تصعيد الحرب ومَنحِها أهدافًا تُديمُ بقاءَها. حزبُ الله راهنَ على قواعد الاشتباك وذاكرِته عن مُواجهة 2006، وعلى ما يَعرِفُه من انصراف العقيدة الصهيونيَّة عن الحروب الطويلة ومُتعدِّدة الجبهات؛ فانقلَبَتْ كلُّ الحسابات عليه بعكس ما كان يُخطِّطُ ويتمنَّى. أمَّا إيرانُ فإنها ارتكَنَتْ إلى الضمانة التى يُوفِّرها لها مبدأُ الدفاع المُتقدِّم عبر الأذرُع الرديفة لمحور المُمانعة، قبل أن تكتشف أنها صارت عبئًا حقيقيًّا عليها، ومدخلاً لتوريطِها فى الصراع بالأصالة؛ أكان للدفاع عن استثماراتها طويلة المدى فى فكرة تذخير الأيديولوجيا والقضية الفلسطينية، أم للهروب من مُخطَّط الاستهداف الذى وضعته حكومةُ اليمين فى تل أبيب، وتأكَّد أنه لم يعُد يكتفى بالشواخص المنصوبة فى الميدان بديلاً عن التصويب مُباشرةً على الرأس.
أخطأ الجميعُ بالحسابات الاستراتيجيَّة، ويرتبكون فى التكتيك، وكلُّ ما يُمكن لطرفٍ أن يعدّه ضمن المكاسب، يتيسَّرُ للآخر تلوينُه بمعانٍ مُغايرة، بينما يُرتِّب الدفوعَ والشواهدَ على فاعليَّتِه وأرباحه القابلة للتلوين أيضًا. باختصارٍ؛ لا يعدو خطابُ النصر أن يكون سرديَّةً دعائيَّةً مُؤدلَجةً فى المقام الأوَّل، والحال أنّه إزاء هذا التساوى على أرضيَّةٍ رماديّة، يتعذَّرُ الجَزمُ بالسبق لأىٍّ منهما، ناهيك عن فكرة الحَسْم وقد صارت مُستحيلةً على ما يبدو. ومناطُ التقييم فى سياقٍ مُلتبسٍ كهذا، لا يتوقَّف على قُدرة الصمود فى مُقابل العجز عن الإبادة، ولا المُفاضلة بين الخسائر الذاتيَّة والغَيريَّة؛ إنما يحتكمُ لطبيعة التوازُنات التى كانت قائمةً قبل إشعال الفتيل، وما آلَتْ إليه اليومَ، وأُفقِها المُستقبلىِّ فى ضوء الفوارق الواضحة فى موازين القوى.
أمَّا الاستنادُ لمسألة الخذلان من جانب حُلفاء المُمانعة، أو وقاحة الإسناد الغربىِّ لمشروع الصهيونيَّة التوسُّعىِّ؛ فيصلُح بالكاد لتقييم السياق ضَميريًّا وأخلاقيًّا، بينما لا يُغيِّرُ شيئًا من تركيبة المشهد، كما لا يُوفِّرُ المددَ المطلوبَ لتصليب الظهر قتالاً أو تفاوضًا. والفارقُ عريضٌ جدًّا بين الإقرار بالمَظلَمة والدفع لإنهائها، وبين الإيمان بالحقِّ وعجزه فى مُواجهة الباطل. وإن كُنّا نسعى إلى تفكيك تراكيب الصورة واحتدامها؛ فالبداية وُجوبًا من الإقرار بالواقع، والتمرُّد عليه، وترسيم حدود عقلانيَّة واعيةٍ بين نقدِ الصديق ومُمالأة العدوِّ؛ إذ النقدُ مَدخلٌ ضرورىٌّ للفهم أوّلاً، ثمّ للمُراجعة والتصويب، ولا معنى لرؤيتِه على صورةٍ أُخرى إلَّا أننا نُشهِرَ العاطفةَ بديلاً عن السلاح، ونُعطِّل القوَّة والسياسة معًا، ونستمرئُ العِلَّةَ على حساب التداوى والعافية.
لكلِّ عُملةٍ وجهان، والنظرُ إليها من جانبٍ لا يلغى وجودَ الآخر. فلسطينُ قضيَّةٌ عادلةٌ بالحقِّ والقانون، وفى نظرِ أصحابها بالضرورة؛ لكنها تكتسبُ فى المُقابلِ أدوارًا وظيفيَّةً لدى البعض، لعلَّ إسرائيل فى المُقدِّمة بحُكم الاشتباك المُباشر، وأنها الطَّرفُ المَعنىُّ بالحلِّ أو التعقيد، إنما لا يُمكنُ التغافلُ عن حقيقةِ ما تراه الشيعيَّةُ المُسلَّحة من فُرصةٍ للتمدُّد والنفوذ. وما يخصُّ البلدَ ينسحبُ على مُكوِّناته، فيصيرُ السؤالُ مشروعًا عن موقع حماس والجهاد مثلاً، ومن سار على دربِهما من الفصائل، فى ترتيبِ الاستراتيجيَّات والأهداف لدى محور المُمانَعة.
وبعيدًا من التنسيق المُسبَق أو الانفراد بالقرار؛ فقد اختبر «السنوار» عمليًّا على مدار سنةٍ كاملة أنه فى مَوقعٍ مُتأخِّر من الاهتمام، وازدادت الرسالةُ رسوخًا بعدما نشطَتْ إيرانُ على خطِّ الجبهة اللبنانية، بمُجرَّد استشعار ما يحيقُ بالحزب من مخاطرَ وجوديَّة. ومع الصلابة البادية من جانبها دفاعًا عن دُرَّة التاج؛ فإنَّ مُقاربات الأسابيع الأخيرة ربما تُفصح عن مستوىً ثانٍ من الأولويَّات. والقَصدُ أنَّ «وحدةَ الساحات» لم تتحقَّق فيها الدلالةُ التى فهمناها من البِنيَة اللغوية؛ إلَّا على شرطِ أن يكونَ التلاقى الوحدوىُّ دفاعًا عن طهران نفسِها؛ أمَّا فى المستوى العَمَلانىِّ فقد بدا أنَّ مُكوِّنات التحالف لا تتساوى فى المراكز المعنوية، والبحثُ ليس فى المسافة بين الضاحية وغزَّة؛ بل فى موقعِ الأخيرة إذا ما وسَّعْنا قوسَ الرؤية باتِّجاه سوريا والعراق ومعاقل الحوثيِّين فى اليمن.
استقامةُ الشعار تعنى أنَّ الجميعَ مُنتدَبون للمعركة الجارية، بغَضّ النظر عن طبيعتِها ومخاطرِها. أمَّا مضمونُه العميقُ فيُفصِحُ عن معيارٍ مُختلفٍ تمامًا فى النَّظَر والمُفاضلة. تكتسبُ «حماس» قيمتَها من التَّمَاس المُباشر مع إسرائيل، وإمكانيّة أن تكونَ أداةً للإزعاج السهل أو الإيذاء العميق. لكنها حينما تنزلقُ لخندق المأساة لن تتجنَّد بقيَّةُ الأذرُع لانتشالها؛ طالما أنَّ تلك المهمَّة تتصادمُ مع الرؤية الاستراتيجيَّة لبناء المحور والاستثمار فيه من الأساس. ومن هُنا فقط يُفهَمُ لماذا أقرَّت الجمهوريةُ الإسلاميَّةُ بتحييد سوريا منذ اليوم الأوَّل، وتتقبَّلُ مُقاربةَ الحكومة العراقية بشأن إبعاد الحشد الشعبىِّ عن المُواجهة، وتتحرَّك بحسابٍ دقيق فيما يخصُّ تفعيلَ قُدرات الحوثيين عند مدخل البحر الأحمر وباتجاه إسرائيل.
ولا يعنى هذا طبعًا أنها تسترخصُ الحزبَ اللبنانىَّ؛ مُقارنةً بإخوتِه العراقيين، أو بالميليشيات الأفغانية والباكستانية فى سوريا؛ لكنها أساءت التقديرَ بشأن إبقائه على حافةِ النار دون الوقوعِ فى المحرقة، واعتبرَتْ أنَّ ما يتوافرُ له من قدراتٍ حيوية، يُغطّيها استتباعُ الدولة والهيمنةُ على قرارِها، يسمحُ له بأنْ يلعبَ دورَ الإسناد وغَسل السُّمعة؛ على أملِ الحفاظ على أُصولِها المهمّة داخل فلسطين، دون فقدانِ غيرها فى أرجاء المنطقة. والمُؤكَّد أنها لا تُحبُّ أن تخسرَ وجودَها السورىَّ؛ اتِّصالاً بحساباتٍ ماضويّة ومذهبيّة وفى المسألة الكُرديّة، وما يخصُّ الصِّلَة العضويّة بروسيا والتوازنات الحَرِجة مع الولايات المتحدة وتركيا، كما لن تُفرِّطَ فى الجائزةِ العراقيَّة التى جاءتها على طَبقٍ فضّىٍّ بعد الغزوِ الأمريكىِّ، وكانت تعويضًا عن السمِّ الذى تجرَّعه الخُمينى فى حربه مع صدَّام، وفى الخروج المُذلِّ منها أواخر الثمانينيات.
بهذا؛ فَرَضَتْ الضرورةُ أن يكونَ «نصر الله» مندوبَها فى ترتيبِ ما بعثرَه «السنوار»، وأنْ تتحرَّك بحَذرٍ حتى لا تمدَّد النارُ إلى بقيَّة السجَّادة التى نسجتها بصبرٍ ودأب؛ ومع انقلابِ الصورةِ على خلاف رهاناتِها السابقة؛ فالغايةُ الأُولى أن تستنقِذَ الحزبَ؛ ولو بجسدٍ مُثخنٍ وفاعليَّة باهتة، وألَّا تتورَّطَ بالأصالة، ولا أن تُجبَر على الانصرافِ من الحاضرتين التاريخيتين للمشروع العربىِّ المُضادّ، فى دمشق وبغداد؛ وهذا ما قد يُعزِّزُ رهانَها على الحوثيِّين فى المرحلة المُقبلة. والمعنى؛ أنَّ ما يُحتمَلُ أن يبرُدَ جنوبىَّ الليطانى؛ قد يتأجَّجُ عند بابِ المندب، والإدارةُ الأمريكيَّةُ تعرفُ ذلك بالمنطقِ أو المعلومة؛ ولذا فإنها تتلاقَى مع تلِّ أبيب على نِيّة نَقل الحربِ لبيتِ العنكبوت بدلاً من البقاء فى متاهةِ خُيوطِه البعيدة.
تقولُ واشنطن منذ بدايةِ الموسمِ القِيَامىِّ خلافَ ما تفعلُ على الأرض. طالَبَتْ بلَجْمِ الحرب فى غزّة، وسَعَتْ إلى إنجازِ هُدنةٍ تقودُ لتسويةٍ طويلة المَدَى تحت لافتة «اليوم التالى»، وما مارَسَتْ ضغوطًا تُذكَرُ لإثناء نتنياهو عن مُغامراته الحارقة، كما لم تتوقَّف عن تذخير مدافعِه وضَخِّ الوقود اللازم لاستكمال الإبادةِ فى شرايينه. ولا فرقَ بين أن تكونَ الرخاوةُ عن عجزٍ أو نوايا سوداء، ولا أنَّ الزمامَ مَمسوكٌ بصهيونيَّةِ بايدن أم بإرادة الدولة العميقة؛ فالمُحَصِّلةُ أنَّ امبراطورَ العالمِ وفُتوَّتَه يمضى وراء مخبول الليكود وعصابته. وهذا مِمَّا لا يُرجِّحُ الرهانَ على الوساطة الأمريكيَّة فى أيَّة جبهةٍ ساخنة، ولا على الوعود بالجديَّة فى اجتناب الحرب الواسعة، أو الترضية والتطمينات المطروحة داخل الغُرَف المغلقة. وفى أحسنِ الأحوال؛ يصحُّ القول إنَّ الديمقراطيين ما كانوا راغبين فى المحطَّة الحالية؛ إنما بمُجرِّد وُصولِها قرّروا الاستثمار فيها، أو البحث عن كُنوزها الخَفيَّة طالما أنهم سدَّدوا كُلفةَ الرحلةِ كاملةً.
نجحَ نتنياهو فى سَحبِ المُمانعة على أرضيّته، وفى رَبط عدوانِه بالمصالح الاستراتيجيَّة للحليفِ الأمريكىِّ. وساكنُ البيت الأبيض يعلمُ يقينًا أنه يسعى لنُصرةِ غريمِه الجمهورىِّ؛ إنما لا يُمكنُ أن يُخالِفَه فى سرديّة الخطر الإيرانى، ولا أن يتجرَّأ على تخطئتِه فى اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم عقيل، المَوضُوعَيْن على لائحة الإرهاب وبرنامج مُكافآت العدالة، أو إسماعيل هنيّة وحسن نصر الله مع مَوقفِه المبدئىِّ من حماس والحزب. وحينما وقف «بيبى» أمامَ الكونجرس يقولُ إنه يخوضُ حربَ الولايات المُتّحدة والغرب؛ فإنه قد برهَنَ لهم عمليًّا بالقصاص لجنود المارينز المَقتولِين فى لبنان قبل أربعة عقود، وعندما قسَّم المنطقةَ لمِحورَين ومنحَ أحدَهما صِفةَ «اللعنة»، فإنه وحَّدَ معاركَ واشنطن الجزئيَّة بالعراق وسوريا واليمن فى معركةٍ واحدة، وذكَّرها بوجيعةِ رهائن السفارة فى طهران وقتلى السفارة فى بيروت.
الدعمُ الذى تدفَّق على إسرائيل بعد «الطوفان» يحافظُ على زَخمه. وبعيدًا من أسبابِه المُباشرة؛ فلَمْ يطرأ على المشهدِ ما يَشِى بتبدُّلِ المُعادلة. هكذا لا يُنتَظَرُ أن يُغيِّرَ نتنياهو زاويةَ نظرِه للجولة الراهنة، ولا أن يحرِفَه بايدن عنها، وستظلّ أمريكا شريكًا مُباشرًا فى الحرب من المستويين: غطاء السياسة وتقطيع الوقت بالمُقاربات الإنسانية المُفرّغة من المَضامين، والحضور الكاسح على رأس الميدان إسنادًا، وقتالاً لو تطلَّب الأمرُ. والحال؛ فلا يُمكِنُ الرهانُ على إعادة التَّمَوضُع بأثر الانتخابات، ولا أنْ تتفجَّر المُصادفاتُ بما يُجفِّفُ التفوُّقَ العِبرىَّ ويُقِيلُ المُمانِعين من عثراتهم. صحيحٌ أنَّ الحزبَ يُبدِى صلابةً ظاهرةً، ويحاولُ الإيحاء بأنه تجاوزَ تصفيةَ سلسلةِ قيادتِه العُليا وتدميرَ كثيرٍ من مقرَّاته ولوجستيَّاته؛ إلَّا أنه لا يصحُّ إطلاقًا أن يعزِلَ نفسَه عن بيئته، وأن يحصرَ خسائرَه مُستثنِيًا منها ما طالَ الجنوبَ وعُمومَ لبنان. تلك الذهنيّةُ تُعزِّزُ مُستهدفات العدوِّ الساعية لتفكيك البلدِ بأكثر مِمَّا هو مُفكَّك، وتغذية الفواعل القادرة على استدعاء مشاعر الحرب الأهلية بميراثِها الخِصامىِّ اللاهِب؛ أو إعادة إنتاجِها بكاملِ عدّتها، وبما يترشَّحُ عنها من مخاطر وجوديّة أقلّها إسقاطُ الميثاقيَّة، والعجز عن تركيب بديلٍ عنها فى السياق المأزوم؛ فتكون الفيدراليّةُ المُنادَى بها على استحياءٍ خيارًا للإخوة الأعداء، وسيفًا على رقبةِ الحزب قبل رقاب مُناوئيه.
عُومِلَ لبنانُ باستخفافٍ من جانبِ المُمانَعة. تعودُ المسألةُ لزمَنِ الوصاية السورية؛ ثمَّ لتمدُّدِ إيران الخُمينية من قناةٍ عقائديّة، وصولاً لإحلال تشيُّعها الصَّفَوىِّ بديلاً عن بعثيّة الأسد، وقد اتَّخذَه الحزبُ واجهةً لمشروعٍ «فوق وطنىٍّ»، وتدرَّجَ فى النفاذ لشرايينه من البرلمان إلى دخول الحكومة، ثم فَرْض الثُلث المُعطِّل، وأخيرًا تجميد انتخاب الرئيس. والأمينُ العام الراحلُ كان يتستّرُ وراءَ الدولة حينما تكونُ الصيغةُ الرسميَّةُ مُفيدةً لأجندته؛ كما فى اتِّفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل؛ ويُزيحها جانبًا إذا تعارضت المصالحُ الوطنيَّة مع استراتيجيّة المحور. واليومَ؛ ينقلبُ الحزبُ على الصِّفَة السياسية مُنحازًا لطابعه الميليشاوى؛ لا لشىءٍ إلَّا أنْ يخصمَ هزائمَ البلد من دفاتره، ويمنحَ النصرَ معنىً مُخادِعًا يحتكمُ لبقائه ولو زالت حواضنه. والسَّخَفُ كُلُّه أن يُردِّدَ البعضُ مِثالاً بليدًا عن «صدامِ الفيرارى بالرينو» وأىِّ السيارتين ستتضرَّرُ أكثر؛ مع إغفال أنَّ الخَصْمَ من القوىِّ يُضعِفُه، بينما الخَصْمُ من الضعيف يقتلُه أو يُبقيه عاجزًا على الأقل.
يحاولُ «بايدن» أن يُوفِّقَ بين مُتناقضاتٍ لا تقبلُ المُساكَنة: إسناد إسرائيل بما يُطابقُ هواها، وتكسيح محور الشيعيَّة المُسلَّحة، وأن يتجنَّب الصدامَ الشامل، وبالكاد يُمكنه تحصيل هدفين من الثلاثة؛ ما يفرضُ عليه أنْ يُفرِّط لنتنياهو أو لخامنئى أو يتحضَّر للحرب، ويبدو أنه يسيرُ باتجاه الخيار الأخير فعلاً. حديثُه المُتكرِّر عن دعمِ الردِّ العِبرىِّ على صواريخ طهران قبل أسبوعين، وإرساله منظومة «ثاد» الدفاعية عالية المدى بجُنودِها، والتعالى على رسائل الجمهورية الإسلامية فى القنوات الخلفية، وتحذيرها سرًّا وعلنًا من التمادى فى المُغامرات، تُؤكِّدُ كلها أنه ماضٍ باتجاه إرضاء اليمين القومىِّ والتوراتىِّ مع تقويض مشروع المُمانعة، أمَّا الهدفُ الثالثُ بإبقاء المُواجهة تحت سقفٍ يُمكن احتمالُه، فيُراهن عليه من بوَّابة ترويض ذئب الليكود وتعديل بنك أهدافه، مع تعزيز الأُصول العسكريَّة الحاضرة فى المنطقة؛ لامتصاص أيّة توتُّرات، وإبقاء المُعادَلة فى نطاق إيذاء الرأس مع مُواصلة تقطيع الأطراف.
سيكونُ الردُّ الصهيونىُّ صاخبًا وأليمًا؛ ولو تجنَّب المُنشآت النووية والنفطية. والرسائلُ الإيرانية عن احتواء أيَّة ضربةٍ محدودة دون الردِّ عليها لم تجد آذانًا مُصغِيَة؛ لهذا ينشطُ رئيسُ دبلوماسيِّتها عباس عراقجى فى جولاتٍ مكّوكية بعَرض الإقليم، لغرض تفعيل وساطة دول الاعتدال من أجل مُداواة نزق المُمانَعة؛ بعدما تعطَّلت القنواتُ الخلفيّة على ما يبدو. وبينما يتوافقُ الساسةُ والجنرالات فى تلِّ أبيب لأوَّلِ مرَّةٍ على غايةٍ واحدة؛ فالراجحُ أنَّ أيّة وساطةٍ لن تُجدِى فى إبعاد شبح الضربة القاسية عن الخريطة الفارسية، وسيكون عليها أن ترُدَّ حِفظًا لماء الوجه وتمسُّكًا بأذيال الردع، ومع تقاذُفِ كُرة النار يُحتَمَلُ أنْ تنفجر فى أحد الطرفين، فضلاً على أنها توفِّر فى الدوران اللاهثِ ستارًا من الدخان لإكمال المهمَّة فى غزّة ولبنان، وهى لا تنحصرُ فى طلبِ النصر الكامل كما تقولُ سرديّة الكابينت وأهدافه، إنما فى استثمار الأزمة الإنسانية والسياسية على الجانبين، وتأليب البيئات الحاضنة، وتعميق مشاعر الخذلان بين الميليشيات وفى عُمق كلٍّ منها، على أن تتكفَّلَ الأزماتُ البينيَّةُ بإنجاز ما تبقّى من عمليّة التفكيك، وإطالة أمد النزف المفتوح دون أُفقٍ للتشافى.
لم يمُت حزبُ الله، ولا يُنتظَرُ أن يُزاحَ من المشهد بالسهولة التى يتصوُّرها البعض؛ لكنَّ ما تبقّى لدية من بأسٍ وفاعليّةٍ لا يكفى لحَسْم الحرب، كما يمنعُه من الاقتناع بوجوبِ الخروج منها. وعليه؛ سيظلُّ مُتطوّعًا بإبقاء الذرائعِ الصهيونيَّة مُتأجِّجةً وصالحةً للاستثمار وراء الخطِّ الأزرق، وتعميق انقسامات المجال العام اللبنانىِّ بتركيبته الطائفية الخَطِرةِ والمُعقّدة، وضمان ألَّا تُثارَ مسألةُ الهُدنة فى غزَّة طالما أنها مَشبوكةٌ قَهرًا بالضاحية. والخُلاصةُ؛ أنَّ قوّة الحزب تُضعِفُ لبنانَ بأكثر مِمَّا تُزعِجُ إسرائيل، وتُلقِى عبئًا مُضاعَفًا على إيران ذاتِها؛ لأنها مُلتزمةٌ بكلِّ طاقتها أن تُبقِيه على قيد الفاعليَّة، ويصعُب عليها تفعيلُ نظريَّة المُرشد عن «التراجُع التكتيكىِّ» طالما كان الابنُ البِكرُ فى مصيدة الشيطان، الصغير أو الكبير. وبينما تتحدَّدُ النجاةُ اللبنانيَّةُ وفقَ القرار الأُمَمىِّ رقم 1701؛ فإنَّ إحياءه يعنى ضِمنيًّا تنشيطَ ما اشتمل عليه سابِقَاه 1559 و1680 بشأن تحييد الجنوب ونزع السلاح؛ وكلاهما بمثابة حُكمٍ بالإعدام على الميليشيا، وخسارةٍ كاسحةٍ للمحور. هكذا يتساوى الاحتمالان تقريبًا؛ بفارق أنَّ أحدَها يُنقذُ دولةً بشعبِها، والآخرُ يُهدِّد بإحراق المنطقة بالكامل.
قيادةُ الشيعيَّة المُسلَّحة فى مأزقٍ حقيقىٍّ. لقد اكتشفَتْ أنها استُدرِجَت من مأمنِها، وما كانت تدَّخرُه للمستقبل فجَّر نيرانَ الحاضر فى وجهها. والقصدُ أنها استثمرَتْ فى الميليشيات لتكون ذراعًا للجمهورية وحارسًا على مشروعِها؛ فجَلَبَتْ لها الحربَ قبل موعدها المُخطَّط، وصار عليها أن تنخرطَ فيها دفاعًا عن الأُصول البعيدة، وعن نفسِها أوَّلاً. والصهاينةُ يرون أنهم فى ظروفٍ مِثاليَّةٍ قد لا تتكرَّر، والقضيَّةُ الفلسطينية تعدَم مَن يُفكِّر لها من الداخل بتجرُّد وطُهرانيَّة، كما أنَّ لبنان مدعوٌّ للموت وليس مَدعوًّا للاتفاق على شروطه. تفعيل القرار 1701 يُواجه عَنَتًا من الطرفين: الصهيونية والمُمانَعة. وإذا كان الحزبُ يحيا بذاكرة 2006؛ فإسرائيلُ تُحاولُ استنساخَ تجربة 1982، والزمن تخطّاهما بالدرجة نفسِها؛ إذ لا فُرصةَ للنجاة بكامل العتاد مع صَرفِ فائض القوَّة ضد البيئة الداخلية، كما لا أملَ فى الاحتلال الطويل وإنتاج سُلطةٍ مُوالِيَة. المُنادَاةُ بإعادة المُستوطنين للجليل ذريعةٌ لإطالة الحرب؛ بالضبط كفكرة إفناء حماس فى غزَّة، ورَبطُ الجبهتين من جانب الحزب لا ينهى مأساة القطاع؛ فضلاً عن تقديم لبنان قُربانًا مجّانيًّا على مذبح العدوِّ وطقوسه الدموية. رغبةُ الطرفين فى رسم الخريطة تفوقُ قدراتهما؛ إنما لو تيسَّرت لأحدِهما فسيكون الطرفَ المُكلَّلَ بتاج الإمبراطورية الأمريكية. تمسّكَتْ إيرانُ بالصبر الاستراتيجى ومَنَعته عن حُلفائها، وعندما غادرته إلى «التراجُع التكتيكى» فَرَضَت عليهم الإقدامَ بدلاً منها. الاستبصارُ يبدأ من الإقرار بخسارة الجولة؛ وبأنَّ إطالتَها ليستْ فى صالح قضية فلسطين، ولا بقيّة الساحات على تنوُّعِها واختلاف عقائدها. وإذا حَقَّ لطهران أن تبحث عن نجاتها على جُثث الآخرين؛ فليس أقلَّ من أن يرفُضَ الآخرون أن تَرتَصِفَ الطريقُ بأشلائهم. هناك دائمًا خيارٌ بين نارين؛ وطالما أنهما يُحرقان لا يُنيران، وليس فى إحداهما ما يُنضِجُ التجربةَ أو يشدُّ العزم ويأكلُ القيود؛ فلا بديلَ عن إطفاء ما فى المُتناوَل، أو الإفلات منهما معًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة