كانت القافلة مكونة من ثلاثة رجال، تمضى فى الصحراء، يتقدمهم عبدالله أفندى، الذى كان يلقى أبياتا من شعر المتنبى، شاعره المفضل، ويسأله الشيخ محمد عن معنى بعض الكلمات، حسبما يروى صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، فمن يكون «عبدالله» و«الشيخ محمد» الذى معه؟
«عبدالله» هو جاسوس إنجليزى جاء لمصر لينفذ مهمة سرية، وهى شراء «العربان» بالرشاوى لخيانة عرابى، أما الشيخ محمد فكان ضابطا بالمخابرات البريطانية اسمه الأصلى «جيل»، وكانت مسيرتهما من السويس إلى الصحراء فى 7 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1882، لدفع الرشاوى، لكنها شهدت مفاجأة.
كانت النية معقودة لدى الإنجليز أن يهاجموا مصر من ناحية قناة السويس، أثناء اشتعال الثورة العرابية، ووفقا لكتاب «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا لمصر» تأليف ألفريد سكاون بلنت، ترجمة عبداللطيف حمزة، مراجعة الشيخ محمد عبده، فإن وزارتى الحربية والبحرية فى إنجلترا رأت أن تمهد لمهاجمة مصر من ناحية قناة السويس برشوة بدو الشرق لاستخدامهم ضد «عرابى»، وجرى البحث عمن يقوم بهذه المهمة فوقع الاختيار على «إدوار بالمر»، أستاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية بجامعة كمبريدج البريطانية.
يذكر «بلنت»: «كان بالمر ممتازا فى اللغة العربية، ويعرف أيضا البقعة التى يعيش فيها هؤلاء البدو، لأنه كان فيما سبق عضوا فى بعثة استكشاف فلسطين، وكان فى ذلك الوقت يعيش فى لندن فى حالة إملاق يستعين بالصحافة على شؤون العيش، وزاد عسره زواجه الحديث، وفى 24 يونيو 1882 ذهب إلى المكتب السرى بوزارة الحرب البريطانية، وتم عرض المهمة عليه، وتقديم 500 جنيه للمصاريف الابتدائية، وبدأت مهمته فى أوائل يوليو 1882، وفقا لبرنامج وضعته وزارة الحرب البريطانية».
بدأ البرنامج بذهاب «بالمر» إلى الإسكندرية للاجتماع بقائد الأسطول البريطانى «سيمور»، ووفقا لصلاح عيسى، فإنه ذهب من هناك إلى يافا بلباس شرقى، متحدثا العربية، ومتخفيا فى اسم «عبدالله أفندى»، ومرددا أشعار المتنبى، ثم إلى غزة فالسويس، وفى هذه الأثناء يتعرف على قبيلتى «الطياحة» و«الترابين»، وبعد لقاء مع بعض أفراد الترابين يقول عنهم: «يريدون معرفتى ومقاصدى، فقال لهم البدوى الذى معى: إنى ضابط سورى مسافر إلى مصر، وكنت مرتديا ملابس العرب المتحضرين، وعرفت عنهم أكثر ما عرفوا عنى».
تنقل «عبدالله أفندى بالمر» من مضارب قبيلة إلى مضارب أخرى، وحسب صلاح عيسى: «كان ينشد شعر المتنبى فى ضوء القمر، ويوزع الهدايا التى حملها معه، ويناقش بدأب وصبر المشايخ فى قيمة الرشوة التى يطلبونها، فإذا ما اتفق مع قبيلة أكل معها «عيش وملح» على أن يحمى كل منهما الآخر، ولا يفض ما بينهما من تحالف».
فى الوقت نفسه، كان «جيل» الذى اتخذ لنفسه اسم «الشيخ محمد» ينفذ مهمة مشابهة بمحافظة الشرقية، ونجح بالاشتراك مع «سلطان باشا وأحمد عبدالغفار والسيد الفقى» من أعضاء النواب فى إغراء مسعود الطحاوى بخيانة عرابى بمبلغ خمسة آلاف كرون نمساوى.
توجه «الشيخ محمد جيل» حاملا عشرين ألف جنيه ليسلمها إلى «بالمر» ليدفعها لمن تعاقد معهم شفهيا على خيانة عرابى، وفى الإسماعيلية يكلف «جيل» بمهمة أخرى، وهى تدمير أعمدة التلغراف فى صحراء سيناء كلها لمنع المراسلات البرقية بين جيش عرابى وبين تركيا وسوريا، وتحمس لقطعها من السويس، فذهب إليها لكنه لم يجد «بالمر»، وعلم أنه عبر إلى الشاطئ الآخر ليشترى خيولا وجمالا، وفى المساء عاد «بالمر» ومعه اثنا عشر فرسا وثلاثون جملا اشتراها بأربعمائة جنيه، وسلمه «جيل» العشرين ألف جنيه التى كانت معه.
فى مساء «6 أغسطس 1882» اجتمع الأدميرال سيمور مع محافظ السويس، وحضر «بالمر» ليترجم الحديث بينهما، ثم حضر بعد ذلك مأدبة عشاء أقامها «سيمور»، وبعد العشاء انعقد اجتماع خاص حضره «جيل» و«سيمور» و«بالمر»، واتفقوا فيه على أن يسافر الاثنان فى صباح الغد إلى الصحراء لتسليم النقود إلى البدو، وتدمير وإحراق أعمدة التلغراف، ثم شراء أكبر عدد من الخيول والجمال، ويصحبهما الملازم تشارنجتون ياور الأدميرال «سيمور».
سارت القافلة يوم 7 أغسطس، ووفقا لصلاح عيسى، فإنها اقتربت من وادى سدر، وحطت الرحال هناك، ونصب بدو لهم خيمة واسعة استراح فيها الرجال الثلاثة، وانصرفوا هم لإعداد الطعام، وبعد الغذاء استراحوا فى ظل أشجار النخيل، وبعد القيلولة، قام أحد البدو لبعض شأنه، وبينما هو عائد، لمح عبدالله أفندى يجلس على الأرض، والحقيبة السوداء التى كان يحملها مفتوحة، تطل منها رزم الأوراق المالية، ويعدها، ويقسمها إلى أكوام، ويتمتم بأسماء أفراد من قبيلة «تباها».
تسلل البدوى عائدا إلى زملائه بالنبأ المثير، وقبيل الغروب استعدت القافلة للرحيل، وفجأة انطلقت ثلاث رصاصات، قضت على الرجال الثلاثة، وفى رمال الصحراء دفنت أحلام «عبدالله أفندى بالمر» إلى الأبد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة