بيشوى رمزى

أفريقيا والغرب.. الاستعمار "القيمى" ومعضلة بناء الثقة

الأحد، 06 أغسطس 2023 01:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما التفتت القوى الكبرى مؤخرا إلى أفريقيا، في ظل حالة من التنافس الدولي الواضح على تلك البقعة الجغرافية الغنية بمواردها، تزامنا مع صعود قوى دولية جديدة لديها القدرة على مزاحمة الولايات المتحدة ومن ورائها المعسكر الغربي على قيادة العالم، وعلى رأسها الصين وروسيا، واللتين حققتا نجاحا منقطع النظير في اقتحام القارة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ليتوارى نفوذ الغرب، وهو ما دفع إلى العديد من التحركات، من شأنها تقديم الدعم لدول المنطقة، وهو ما يبدو في منح واشنطن المناخية، أو القمم التي عقدتها الولايات المتحدة قبل شهور مع القادة، وهو النهج الذي انتهجته باريس لاحقا عبر قمة "نحو ميثاق مالي عالمي جديد"، بالإضافة إلى محاولاتها المتلاحقة لاسترضاء الدول الأفريقية، والتي باتت تميل بقوة نحو معسكرات أخرى.
 
الصعود الإفريقي الكبير في الأجندة الدولية، يعكس الأهمية الكبيرة التي تحظى بها القارة السمراء، ليس فقط بسبب ما تمتلكه من موارد اقتصادية طالما اعتمد عليها الغرب، وبالأخص أوروبا، ليحقق طفرته الاقتصادية الكبيرة، لعقود طويلة من الزمن، وإنما لما باتت تحمله من ثقل سياسي في ظل الأزمات المتواترة، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، والتي خلقت قدرا كبيرا من الزخم للمناطق المهمشة من العالم، بقدر ما ساهم في تفاقم أزماتها، حيث يبقى استقطاب أكبر قدر ممكن من دول العالم، بمثابة السبيل الوحيد لتحقيق "الشرعية" الدولية، أو حجبها، عن أي من طرفي الأزمة (روسيا والغرب الأوروبي)، بالإضافة إلى المنافسة الكبيرة مع الصين، والتي وصلت إلى حد الحرب التجارية خلال السنوات الماضية، لتضع نفسها بديلا "شرعيا" للاعتماد الكلي على الولايات المتحدة والغرب.
 
وهنا تبدو أزمة الغرب، والتي تتجسد في انعدام الثقة من قبل دول القارة السمراء تجاهه، جراء إرث طويل من الاستنزاف، سواء خلال الحقبة الاستعمارية، أو ما تلا ذلك من تجريف، ناهيك عن التدخلات السياسية المباشرة، في شؤون الدول الإفريقية، في إطار تصدير الأفكار النمطية لمنظومة من القيم الدولية، لإجبارهم على الدوران في فلكهم، وهو ما أسفر في نهاية المطاف إلى حلقة متواصلة من الأزمات، التي بات من الصعب تجاوزها، خاصة مع طبيعتها التراكمية والمستحدثة، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في صعود نفوذ القوى الصاعدة، وخاصة الصين، على حساب الغرب المهيمن على تلك المنطقة من العالم.
 
ولعل النهج الذي تبنته الصين وروسيا في التعامل مع أفريقيا قد أثبت نجاعة كبيرة، ليس فقط فيما يتعلق بتعزيز التعاون الاقتصادي، والتحول نحو الشراكة معها في هذا الإطار، وإنما أيضا في تحييد منظومة القيم، التي أرساها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، في التعامل مع دول القارة، وعلى رأسها الحديث المتواتر عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث استبدلتها القوى الجديد بمبدأ "عدم التدخل"، ليصبح الأساس الذي تستلهم من خلاله تلك القوى الصاعدة شرعيتها، في قيادة هذا المعسكر من العالم، الذي يبدو بديلا عن المعسكرات القائمة على أسس أيديولوجية، وهو ما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، بين الرأسمالية الغربية، والشيوعية السوفيتية، أو حضارية، على غرار ما يسمى بـ"صراع الحضارات"، والذي هيمن على العالم بدءً من التسعينات من القرن الماضي، ليصل إلى ذروته مع الألفية الجديدة، في ظل أحداث 11 سبتمبر.
 
الحديث عن مبدأ "عدم التدخل" يمثل العودة لأصول العلاقات الدولية، والتي قامت عليها المواثيق الرئيسية، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، خاصة وأن منظومة القيم الغربية، باتت تعاني، ليس فقط في تلك المناطق النامية، وإنما أيضا في الداخل الغربي، في ظل نجاحات حققتها دول ديكتاتورية في تجاوز أزمات كبيرة، كما هو الحال في قدرة بكين الكبيرة على تجاوز أزمة الوباء، في الوقت الذي تعثر فيه الغرب لشهور طويلة، بالإضافة إلى عجز الدول الكبرى، ذات الديمقراطيات العريقة على مجاراة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العالم، ناهيك عن التوتر الكبير جراء الأزمة الأوكرانية، والحاجة إلى الحصول على أكبر دعم دولي ممكن، مما وضع تلك المنظومة على المحك، في ظل الحاجة إلى استقطاب دول ربما لاحقتها "لعنات" الديمقراطيين على مستوى العالم، لعقود طويلة.
 
مبدأ "عدم التدخل" كبديل لمنظومة القيم الدولية ذات الطبيعة الغربية، لا يقتصر على المدار الدولي الواسع، وإنما يبدو واضحا في النطاق الإقليمي، وهو ما يبدو في تعامل القوى الإفريقية مع الأزمات التي تشهدها القارة مؤخرا، وعلى رأسها الأزمة السودانية، والتي تتضح فيها الرؤية المصرية القائمة على تضييق نطاق التدخل الخارجي، سواء من حيث الأطراف المتداخلة، وهو ما يبدو في مبادرة "جوار السودان" والتي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، أو تضييق الدور، ليقتصر في واقع الأمر على تهيئة البيئة لدفع الأطراف السودانية على الحوار دون انحياز لطرف دون الأخر، أو تصدير حلول "معلبة" تبدو قصيرة المدى، ليأتي الحل من الداخل، نابعا من حالة من التوافق، يؤدى إلى استقرار طويل الأمد.
 
وهنا يمكننا القول بأن المعضلة الرئيسية التي يواجهها الغرب، وفي القلب منه أوروبا، في التعامل مع إفريقيا، وربما غيرها من مناطق العالم، التي تهيمن عليها الدول النامية، تتجسد في الإرث التاريخي، عبر مراحل متواترة من الاستعمار، أولها عسكري، بدت في الحقبة الاستعمارية، والتي استمرت حتى النصف الثاني من القرن العشرين، أو الاقتصادي، عبر السيطرة على الموارد واستنزافها، أو ما يمكننا تسميته بـ"الاستعمار القيمي"، عبر تصدير القيم الغربية، إلى دول القارة، بعيدا عن الظروف المحيطة بها، وما ترتب على ذلك من تدخل صريح في شؤون دول القارة، وإجبارها على نهج معين، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تصاعد "نزعة" التمرد لدى دول القارة تجاه قياداتها التقليدية، وهو ما يثير معضلة "بناء الثقة" وهو ما لا يبدو هينا، ويحتاج إلى مساحة أكبر من الوقت والجهد، خاصة مع وجود قوى أخرى تبدو أكثر مرونة فى التعامل مع محيطها الدولي، ولا تسعى إلى فرض قيمها على الدول الأخرى، لتحظى بقدر كبير من الثقة من قبل دول القارة في السنوات الأخيرة









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة