معروف أن الفيلم أداة سياسية وهو خطاب اجتماعى وسياسى يمكن من خلاله النظام السياسى أن ينشر أفكاره ويسيطر على الجماهير، بل أيضا الفيلم هو وسيط سينمائى سمعى - بصرى يمكن أن يتجلى به الفكر السياسى، فقد لعبت السينما دورا کبيرا فى تشكيل الاتجاهات، والسينما کوسيلة إعلام سمعية -بصرية هى أحد أبرز وسائل الإعلام الجماهيرية ويتميز الفيلم بالعديد من الخصائص الذى تجعله شديد التأثير على تشكيل الرأى العام، وللفيلم تأثير سياسى لا يمكن إغفاله، وينبع ذلك من خصائص أصيلة يمتلكها الفيلم مثل کون السينما فنا سابعا يجمع بين عناصر کل الفنون الأخرى کالصوت والصورة والمونتاج والموسيقى والفن التشكيلى والرقص، وأيضا العدد الكبير للجماهير التى تشاهد الفيلم، واعتماد الفيلم على لغة الصورة بجانب خصائص أخرى.
کل هذه الصفات جعلت السينما محط أنظار الساسة، فقد تم استخدام الفيلم فى الدعاية السياسية أحيانا من قبل النظام السياسى الحاکم، وفى بعض الأحيان الأخرى تم استخدام السينما کمجال لإبراز الأفكار المعارضة، وبذلك أضحى الفيلم مساحة صراعية بين مختلف القوى السياسية، کما عبر الفيلم أحيانا عن رؤى صناع الفيلم المبدعين الذين رفضوا أن يعبروا عن الأفكار السياسية للتيار الرئيسى، أو أن يسيروا مع التيار فهجروا المطروق ليتأملوا الواقع ويأتون بالجديد ويتنبأون بالأحداث السياسية التى وقعت بالفعل أو ينبهوا بالمخاطر التى قد تواجه الدولة والمجتمع، کان ذلك نتيجة لإدراك صناع الفيلم المبدعين للمشكلات المجتمعية السياسية الحقيقية، وأرادوا بذلك نقد الواقع بحثا عن الأفضل والأحسن إنطلاقا من القيم الجمالية الذين سعوا إليها.
ومن هنا أدركت ثورة يوليو 1952 خصائص السينما، وأن ما يميز السينما هو دوما بحثها عن الصورة الجمالية، وهنا نعنى أن الصورة هى الخيال فهى نقل وتصوير للواقع، ولكن لا تعنى بأى حال من الأحوال نسخ الواقع، حيث تؤثر السينما فى المشاهدين ويمكن القول أن النزعة التصويرية التى تقدمها السينما معيارية لأنها تقود الناس إلى أن يعلقوا قيمة سامية على اللقطات السينمائية التى تشبه الناس فى الحياة، وبذلك تلعب السينما دورا کبيرا فى التأثير على الشعوب فمن خلال فيلم واحد يستطيع الفنان أن يؤثر على قطاع کبير من المشاهدين، هنا تتجلى أهمية الفيلم السينمائى بل تفوق أهميته الكثير من الفنون البصرية الأخرى بسبب العدد الكبير لجمهور الفيلم، ولهذا وعى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لحقيقة أن نشر الوعى السينمائى والثقافة السينمائية بين عامة المثقفين فى منتهى الأهمية لأن أولئک هم الذين يمثلون جانباً حيويأ من تيار الرأى العام الذى يؤثر بدوره فى اتجاهات السينما وموضوعاتها والأسلوب الذى تتناول به حياتنا.
كما أدرك عبد الناصر أنه ليس هناك فن من الفنون ينال رضا الناس مثل السينما، لذا فالسينما دوما مؤشر للرأى العام، وتكمن قوة السينما الأعظم فى قدرتها على جذب الناس من کل اللغات فلا يحدث التباس للمشاهد فى فهم الفيلم لأنه يعتمد على لغة مختلفة لغة بصرية بالأساس أى ليست لغة مكتوبة يصعب تفسيرها وفهم معانيها، كما أن عناصر السينما تتعدد ومن ثم تجعلها شديدة القرب من ذهن وقلب المتفرج ومن أبرزها اللقطة القريبة Close-up، وقد عبر الباحث السينمائى "جان ابستين" عن ذلك على نحو تفصيلى، فرأى أن اللقطة القريبة هى روح السينما لقدرتها على تکبير الأحاسيس والمشاعر وهو ما يضفى حميمية على المشهد کكل، وبالنسبة للباحث مونتسبرج فإن اللقطة القريبة هى ببساطة تثير انتباه المتفرج بصورة کبيرة، وتطلق الباحثة جرمين دولاك على اللقطة القريبة تعبير اللقطة النفسية فهى فكر وعاطفة الشخصية معروضة على الشاشة.
مع ذكرى ذكرى ثورة يوليو كن كل عام يثار فى مصر جدل واسع حول ماهية "حركة الضباط الأحرار"، والتى اندفعت بدعم من حراك شعبى واسع إلى "ثورة" خلّدتها السينما المصرية فى مواقف عديدة، فهل أنصفت السينما هذا الحدث المصرى الأهم فى تاريخ مصر المعاصر، أم تحاملت عليه؟
الحقيقة أن أفلاما عدة تعرضت لثورة يوليو، لكن تختلف الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، حيث جسدت الثورة بطريقة قد لا ترضى جميع الأطراف أو لا تقدم المعلومات الكافية التى تحتاجها الأجيال المتعاقبة لفهم أهداف ومعالم ونجوم وأبطال وعيوب ومساوئ تلك الثورة، وقيل إن معظم الأفلام والأعمال التى قدمت عن الحدث كانت أقل منه، أو ربما ليست على مستواه، وربما شيئا من هذا الجدل أثير خلال الأيام الماضية ونحن نحتفل بالذكرى 71 لثورة يوليو المجيدة، حيث تقول البعض على فيلم (رد قلبي) ووصفه بالعمل الساذج الذى يخلو م نحس وطني، وهو ما أعترض عليه شكلا وموضوعا، حيث أرى أن رد قلبى هو أيقونة الرومانسية والوطنية فى السينما المصرية على وجه الإطلاق.
ربما كان هناك نوعان من الأفلام، أحدها عبر عن الثورة وأهدافها بصورة إيجابية، مثل "الباب المفتوح" لفاتن حمامة، و"بورسعيد" لفريد شوقي، وهدى سلطان، و"الأيدى الناعمة" لأحمد مظهر وصباح وصلاح ذو الفقار، و"الحقيقة العارية" لماجدة وإيهاب نافع، و"رد قلبي" لشكرى سرحان ومريم فخر الدين، و"الله معنا" لعماد حمدى وفاتن حمامة وشكرى سرحان وحسين رياض، وعبرت أفلام أخرى بشكل غير مباشر عن دعمها للثورة بإبراز سلبيات العصر الملكي، مثل أفلام: "غروب وشروق، القاهرة 30، بداية ونهاية، فى بيتنا رجل".
وكانت الأفلام التى على خلاف مع الثورة أو قدمت بعض مساوئها قليلة، وركز معظمها على مراكز القوى والاعتقالات والتعذيب فى السجون وضحايا بعض الممارسات القمعية التى تعرض لها مواطنون فى بعض الأحيان، ومن أهم هذه الأفلام "الكرنك"، و"احنا بتوع الأتوبيس"، لكن تبقى هنالك حقيقة واضحة وهى أن الثورة أثرت كثيرا على كل نواحى الفن من إذاعة إلى تلفزيون إلى سينما، ولقد أعتدنا أن يكون الفن أداة من أدوات التوثيق والرصد فى العديد من الأحداث التاريخية، لعل الأجيال القادمة تستمد معلوماتها منه على الرغم أنه فى كثير من الأحيان يقدم ذلك التاريخ من وجهه نظر القائمين على العمل ولكن فى النهاية يكون أمامنا العديد والعديد من الأعمال التى تحمل نفس الهدف.
لم يختلف الأمر فى ثورة يوليو، فقد أدرك القائمين على الثورة منذ اليوم الأول لها تلك الحقيقة، فى اليوم الأول لها وجدنا الزعيم السابق أنور السادات والذى كان فى ذلك الوقت أحد الضباط الأحرار للثوره بدخول مبنى الإذاعة وأعلان البيان الاول لهم من خلاله، وهناك العديد من الأفلام التى قدمت ثورة يوليو منها من عبر عن الثورة وأهدافها بصورة إيجابية ومنها من أبرز سلبيات العصر الملكى والذى كان سببا فى قيام ثورة يوليو وكان هناك نوع أخر من الأفلام عرض مساوئ تلك الثورة من وجهة نظرهم ، وكان معظم تلك الأعمال السينمائية يربطهما نزعة الحماس الشديدة .
ونجد أن ثورة يوليو أثرت بشكل كبيرعلى الفن وحاولت تغيير موضوعاته التى كانت تقدم وحاولوا استخدام كافة الفنون لخدمة الثورة، وكان أول بيان للرئيس السابق محمد نجيب بعد الثورة بـ 25 يوما كان يحس على تقديم أعمالا فنيا تنقذ الشباب الذى كان قد دفع إلى الهاوية، ولم يخلو الوسط الغنائى من توثيق الثورة حيث تسابق المطربين وقتئذ للغناء باسم الثورة وكذلك باسم جمال عبد الناصر الذى أزعجه الأمر فى وقت ما وطلب عدم الغناء باسمه مرة أخرى ولكن ظل المطربين يغنون باسمه، ومن أهم الأعمال التى أشارت لثورة يوليو فيلم "شيء من الخوف"، والذى كان إسقاط سياسى واضح على عبد الناصر ومنعته الرقابة ولكن عندما شاهده أقتنع أنه لم يكن المقصود بشخصية "عتريس" فى الفيلم ووافق على عرض الفيلم.
وأعود إلى فيلم "رد قلبي" الذى لم يدرك منتقدوه خلال الأيام القليلة الماضية كان أحد أهم الأعمال السينمائية التى تناولت معاناة الشعب المصرى قبيل ثورة 23 يوليو، فى سياق درامى نال إعجاب المشاهدين، وهى قصة حب جمعت "علي" أحد أبناء الفلاحين البسطاء، و"إنجي" ابنة الباشا، ومرت الأيام وأصبح "علي" ظابط فى الجيش، حتى اندلعت الثورة ونجح فى الزواج من حبيبته "إنجي"، وصنف الفيلم بالمركز الـ 13 من أفضل 100 فيلم بتاريخ السينما، حسب استفتاء النقاد عام 1996 باحتفالية مئوية السينما، وفيلم رد قلبى من إنتاج عام 1957، إخراج عز الدين ذو الفقار، عن رواية الكاتب المصرى يوسف السباعي، وبطولة شكرى سرحان، مريم فخر الدين، صلاح ذو الفقار، حسين رياض، وهند رستم، وحمل رقم 13 فى قائمة أعظم 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية.
رد قلبى يا أيها المنتقدون غاص فى مشاعر العهد الجديد حين عرض فى نهاية عام 1957، عن رواية نشرها يوسف السباعى عام 1954، أى قبل أن تنتهى أزمة الصراع على السلطة بين عبدالناصر ونجيب لصالح الأول، وفى النص الأدبى، فإن يوسف السباعى، الضابط، وزميل السلاح للضباط الأحرار، قد اعترف أن نجيب هو أول رئيس للثورة، وأنه موجود ضمن أحداث الرواية، لكن الضابط الآخر عز الدين ذو الفقار، الذى كتب السيناريو لفيلم "رد قلبى" قام بتغيير خط الرواية، وحذف وجود محمد نجيب من الثورة، وذلك عندما تم تحويل الرواية إلى فيلم ضخم أنتجته آسيا، فهو مصور بالألوان - سكوب، ومدة عرضه على الشاشة وصلت إلى مائة وخمسين دقيقة.
ولاتزال الأفلام التى عبرت عن فرحة المصريين بـ ثورة يوليو 1952 هى المرجعية الأساسية عن الثورة المجيدة فى وجداننا وذكرياتنا على مر الأجيال، سواء كانت تلك الأفلام التى مهدت ووثقت لوقائع وظروف وأحداث الثورة وأظهرت الوضع الاجتماعى المختل والتفاوت بين الشعب والأسرة الحاكمة، لقد أدركت ثورة يوليو مبكرا أهمية السينما كإحدى الأدوات الفنية التى يجب دعمها بقوة خاصة فى ظل تبنى (يوليو) لمشروع وطنى يسعى لاستعادة دور مصر الإقليمى والعالمي، ومن ثم رأت ضرورة دعم كل مفردات قوتها الناعمة هذا ما دفعها لإنشاء عدد من المؤسسات والمنشآت التى تدعم هذا التوجه من أهمها (المؤسسة العامة لصناعة السينما)، و(أكاديمية الفنون) والتوسع فى إنشاء دور العرض السينمائى فى مختلف مدن مصر، وأعتقد جازما أن كل هذا صنع بنية تحتية قوية ما زالت تمثل رصيدا وطنيا لمختلف الفنون.
ولهذا أقول فى النهاية للعابثين بأيقونات السينما المصرية، كفاكم جهلا وسذاجة، كى تقللوا من الفيلم العظيم "رد قلبي"، الذى قدم ملحمة رومانسية مغلفة بإطار وطنى باحترافية عالية، وهو ما جعل السينما المصرية من خلاله أن تعبر بشكل جيد عن حدث بحجم (يوليو 1952) وتتناول بعمق حجم التأثير الذى صنعته تلك الثورة فى المجتمع المصرى والعالم، وقد شهدت صناعة السينما تطورا كبيرا على يد (يوليو) ما اعتبره كثير من المتابعين أن الثورة ساهمت فى الإنشاء الثانى للسينما المصرية والتى ظهرت لأول مرة فى عام 1907، وأولت ثورة يوليو اهتماما كبيرا بالثقافة والفنون ومن بينها الفن السابع حيث تمثل مرحلة (الخمسينيات والستينيات) فترة مضيئة فى مسيرتها من حيث عدد الأعمال وجودتها، ولهذا اندهش حقا بوصف فيلم "رد قلبي" بالسذاجة التى تنقصه حقه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة