ما أكثر الحكم والأمثال التي تدعونا إلى تجاوز الشكل في مقابل الجوهر، والاهتمام بالأصل لا المظهر، والوقوف دائما على الخصائص والتفاصيل بديلاً عن التفاهات والسطحية، لكن هذه الأقوال وتلك العبارات في واقع التطبيق لن تجد لها تأثيرات ملموسة، فالشكلية تربح دائماً بمجتمع تجذرت فيه فكرة التركيز على المظاهر دون أي شيء آخر، وهذا منذ أساطير الفراعنة القديمة، التي كانت تحاسب الموتى بوضع قلوبهم على الميزان في مقابل ريشة "ماعت"، فإن رجحت كفة الريشة فالميت صالح، وإن رجحت كفة القلب فالعكس تماماً، في عملية شكلية لا يمكن قياس نتائجها بمعايير العقل والمنطق.
امتدت الشكلية في حياتنا منذ أزمان طويلة، وقرون عديدة، واتصلت بكل مظاهر الحياة والموت أيضاً، حتى امتدت للعبادات، فصار البعض يمارسون الصلاة كالتمارين الرياضية، حركات دون استحضار "حالة الصلاة"، وقراءة دون خشوع أو عبرة، ودعاء عريض تغلبه مظاهر النفعية الصارخة التي لا تخرج عن المال والولد والزينة والمتعة ومسائل تخص أصحابها فقط، فالراجح أنه لا أحد يدعو لغيره، بل صرنا نكتب أسماء من نذكرهم بالدعاء أمام الكعبة المشرفة، ثم نرسلها لهم طمعاً في اللايك والشير!
الشكليات تسيطر على حيواتنا جميعاً، بل صارت جزءً من كل أسرة في مصر، ولك أن تتخيل معي حجم حالات الطلاق اليومية، وفق آخر إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بلغت 630 حالة يومياً، أغلبها نتيجة مشكلات عارضة، وقصص هامشية، وموضوعات بسيطة، لا يتصور أحد أن تكون سبباً مباشراً في الطلاق وتفكيك الأسرة.
أعتقد أن التعليم والبحث العلمي أخطر القطاعات التي أصابتها الشكلية والسطحية، ولك أن تتصور معي حجم الأبحاث الدولية المنشورة وفق بيانات وزارة التعليم العالي، التي سجلت نحو 39 ألف بحث منشور دولياً خلال عام 2021، في حين لو تعرضت لجودة هذه الأبحاث وانعكاساتها على الناس والمجتمع ستجد كلاماً آخر، وحقائق وأرقام تقودك إلى ما وصلنا إليه من إغراق في الشكلية البائسة، التي تجعلك تفكر ألف مرة قبل الذهاب إلى الطبيب أو التصالح مع فكرة إجراء جراحة ولو بسيطة خوفاً من حجم الأخطاء والإهمال، التي يتم تزيينها بمصطلح "المضاعفات"، في حين أنها قصور وعقبات.
لو تطرقنا إلى مجال الدراسات والأبحاث العلمية في الكليات النظرية "الإعلام نموذجا" ما وجدنا الآن سوى الشكليات والمظاهر والمصطلحات البراقة، والكلمات التي يتشدق البعض بها، دون تحرير مصطلحاتها، أو فهم معناها الحقيقي و استخداماتها في الواقع العملي، فقد تحركت الدراسات من قياس التأثير والانتشار وميول الجمهور وسلوكه، وشخصية المتلقي، وأنماط التعرض، إلى مصطلحات "الصيت ولا الغنى"، مثل الذكاء الاصطناعي والميتافيرس، وجميعها تجارب شكلية بحتة، لن تقدم طفرات على مستوى المحتوى أو تطوير في أداء القائم بالاتصال، والأصل أنها تقع على تخوم علوم أخرى قد يكون الإعلام أبعدها، وشخصياً لا أراها أكثر من فقاعة كبيرة، ودليل دامغ على شكلية العديد من الدراسات الإعلامية في وقتنا الراهن.
لم تسلم الحقائق التاريخية المهمة، والانتصارات المذهلة التي حققها المصريون من الشكلية الصارخة، فمازال الآلاف، ربما الملايين، لا يعرفون عن خط بارليف في انتصارات أكتوبر المجيدة سوى أنه ساتر رملي، أزالته مضخات المياه، لدرجة أن محرك البحث العملاق جوجل بات يظن أن هذا الحصن العملاق تم تدميره بخراطيم المياه، من كثرة الموضوعات والتقارير الشكلية التي تناولته، في حين أن بارليف كان أخطر وأقوى الحصون العسكرية في التاريخ الحديث، وقد كان يمتد على طول يتجاوز 170 كيلو متر، وعمق يصل إلى 20 كيلو متر، بشبكة دفاع متطورة تضم 35 نقطة حصينة، وقوات مكونة من لواء مشاة و3 ألوية مدرعة.
في سورة البقرة يقول الحق تبارك وتقدس "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"، وأظن أن هذه الآية تقدم لنا دعوة صريحة للتمسك بالأصل والجوهر لا الشكل والمظهر، بل إن في السورة المباركة ذاتها يقول الحق تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم والآخر" وهذه أيضا دعوة للتمسك بالجوهر والترفع عن شهوة الشكل، التي باتت تتحكم في سلوكياتنا ومصائرنا، فهل يأتي على هذه الأمة اليوم الذي تنحاز فيه للأصل دون الفروع؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة