كانت الساعة الثانية من صباح يوم الثلاثاء 9 مايو، مثل هذا اليوم، 1950، حين استيقظ مقرئ القرآن الكريم الشيخ محمد رفعت، وقال لزوجته: أريد ماء.. أعطته زوجته قدحا من الماء، وقال لها بعد أن ارتوى: «فين ابنى محمد.. وراح يسأل عن أولاده واحدا بعد الآخر، كل باسمه، فاحتضنته زوجته، وسألته: هل تريد شيئا؟.. رد: لا..أشكرك»، وكانت هذه هى آخر كلمة قالها الشيخ الذى بكت أقسى القلوب وهى تسمعه يردد صوت الله، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد البيلى فى تحقيقه «الشيخ محمد رفعت- صوت من السماء»، بمجلة آخر ساعة، 17 مايو 1950.
كان الشيخ محمد رفعت، بوصف الكاتب محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء»: «فريدا غريبا، باهرا، وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذور الأرض، صوت الشعب، فمن أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين، استمد صوته فخرج مشحونا بالأمل والألم، مرتعشا بالخوف والقلق، عنيفا عنف المعارك التى خاضها الشعب، عريضا عرض الحياة التى يتمناها».
توفى الشيخ محمد رفعت وعمره 68 عاما «مواليد 9 مايو 1882»، وكانت وفاته بعد 7 سنوات من المرضـ، بدأت عام 1943 بموقف يتذكره الكاتب والناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى وكان واحدا من شهوده، ويرويه فى كتابه «أصوات وألحان عربية»، قائلا: «كان يتلو سورة الكهف فى مسجد «فاضل باشا» يوم الجمعة كعادته، فلما بلغ الآية «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا»، غص صوته واحتبس فى كلمتين أو ثلاث، فسكت قليلا يقاوم ما ورد عليه من الغصة والاحتباس، ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة حتى ملأت الغصة حلقه وحبست صوته تماما، هنا حنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب لا يدرى ماذا يصنع، ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر يبدو أنه دواء أحضره له بعض الصيادلة، فاحتسى قليلا ثم انتظر برهة وعاد يحاول التلاوة، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاث، ثم قهرته الغصة وكسرت شوكة الدواء الأحمر، فتوقف الشيخ العظيم حائرا بعض الوقت ثم غادر مجلسه تاركا إياه لشيخ آخر يتلو ما تيسر من السور».
يضيف «النجمى»: «كانت لحظة قاسية عنيفة اهتزت لها أعصاب الحاضرين فى المسجد، فضجوا بالبكاء ولطم بعضهم الخدود حزنا وأسفا، وارتفع صراخ المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة يحاولون أن يتلقنوا بعض أسرار صناعته وفنه وطريقته، وبعد الصلاة خرج الناس وعيونهم فيها الدموع، وقلوبهم تحف بالشيخ الحزين، لا يدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم؟ ».
احتبس صوت «رفعت» إثر إصابته بمرض الفواق، وجاء المرض بعد سنوات عمت شهرته البلاد وطبقت الآفاق، حسبما يذكر الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «نجوم العصر الذهبى لدولة التلاوة »، مؤكدا: «رفعه حب الناس والتفافهم حول صوته ليصبح القارئ الأول فى مصر، وانطلق يتلو عند افتتاح محطة الإذاعة الحكومية فى 31 مايو 1934 ما يتيسر له من سورة «الفتح»، فكان بذلك أول من تلا القرآن فى تاريخ الإذاعة الحكومية».. يضيف «محمود» أن مرضه كان ابتلاء أكبر مما ابتلى به الشيخ بفقده بصره وهو صغير، ويؤكد: «لا يكاد المرء يجد بين قراء العصر الذهبى لدولة قراءة القرآن بمصر من امتحن بالابتلاء كالشيخ محمد رفعت».
«اشتد المرض وتقبله الشيخ راضيا، وأبت عليه عزة نفسه أن يمد يده لأحد طالبا العون فى مصاريف العلاج الباهظة»، حسبما يؤكد الكاتب الصحفى أيمن الحكيم فى كتابه «رسائل لها تاريخ »، مضيفا: «باع بيته وقطعة أرض يملكها ولم يقبل التبرعات التى جمعها المحبون له، وبضغط وإلحاح تلميذه وصديقه الشيخ أبوالعينين شعيشع، وافق على قبول المعاش الشهرى الذى خصصه له وزير الأوقاف الدسوقى باشا أباظة، وقبل وفاته بأقل من عام، وفى يوليو 1949 نشرت مجلة «المصور» تحقيقين عن مرض الشيخ رفعت ومعاناته، فتبنى الكاتب الصحفى أحمد الصاوى محمد حملة لعلاج الشيخ من خلال اكتتاب شعبى، ونجح فى جمع 50 ألف جنيه، ولما علم الشيخ كتب إليه: «أنا مستور والحمد لله ولست فى حاجة إلى هذه التبرعات، والأطباء يعالجوننى ولكنهم لم يستطيعوا وقف هذا المرض ومنعه، كما أن هذه المبالغ أصحابها أولى بها منى، فهم الفقراء والمحبون لصوتى حقا، لكنى الحمد لله لست فى حاجة إلى هذا المال، لأن الشيخ رفعت غنى بكتاب الله ولا تجوز عليه الصدقة، وأعتذر عن عدم قبول هذه التبرعات، ومرضى بيد الله سبحانه وتعالى وهو القادر على شفائى، وإنى أشكر الأستاذ الصاوى وأشكر كل من أسهم فى هذه التبرعات على روحهم الطيبة وحبهم لى».
هكذا عاش الشيخ محمد رفعت سنوات محنة مرضه حتى وفاته، لكن كيف كانت سنوات مجده فى قراءة القرآن الكريم، وكيف بدأت؟.. غدا نواصل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة