أضحى الحوار ضرورة من ضروريات الحياة بمختلف تنوعاتها؛ حيث إنه يُعد أداة رئيسة للتقابل الفكري وتبادل الرؤى وحل المتناقضات؛ إذ إنه يُؤسَّس على بيئة تتسم بالتفاعل والانسجام بين جميع أطراف الحوار ليعترف كل منهما بالآخر، ومن ثم يحفظ الحوار الحقوق ويكفل الحريات ويرعى المصالح والمصالحة عبر آلية واضحة للتنافس في صورته الإيجابية؛ ومن خلاله يتم التعبير عن نسبة القوى الاجتماعية في العملية السياسية بغية التوافق حول صيغة العقد الاجتماعي وتعزيز الانتماء والوحدة وترسيخ ماهية الشراكة في بناء الوطن وتعضيد نسيجه، ويُترجم ذلك في صورة التبادل السلمي للسلطة.
ويُعد الحوار الوطني عملية تفاعلية تسمح بتبادل الرؤى والأفكار والآراء من قبل أطراف تمثل أطياف المجتمع دون استثناء، ترتكز في مجملها على الشفافية والتوافقية حول الصالح العام للدولة المصرية، وتعتمد في إنجاح جلساتها على أسس وآداب الحوار المتعارف عليها، وتستمد مقوماتها من خبرات الآخرين؛ لتحدد عبر نتائج المناقشات المصاعب والأزمات والتحديات الحالية والمحتملة لتتوافق على آليات التغلب عليها، ومن ثم التوصل إلى صيغة توافقية يرتضيها الجميع؛ لضمان مناخ سياسي ملائم وداعم لكافة الأطراف المتنافسة.
وفي ضوء ماهية الحوار الوطني نجد أنه يقوم على أسس وآداب الحوار العامة، ويستهدف ترسيخ مبادئ الشفافية والصراحة والمكاشفة مع كافة الشرائح المجتمعية المشاركة في الحوار، ويحرص على تمكين كافة الأطياف المجتمعية في صناعة القرار، ويُشعِر الجميع بتحمل المسئولية نحو البحث عن الوسائل والآليات التي تواجه بها الدولة التحديات المتجددة وتقتنص الفرص المواتية، بما يؤدي إلى تعزيز الروابط والثقة المتبادلة بين أطراف الحوار برغم تباين الانتماء الحزبي وغير الحزبي.
ولا ريب في أن الوعي بأهمية الحوار الوطني يتأتى بالحد من المزايدات السياسية التي تسعى إلى الطفو عبر بوابة الإصلاح الاقتصادي؛ بغرض شق الصف الجماهيري حول الاصطفاف نحو بناء الدولة وتقدمها، خاصة وأن التحديات النابعة من البيئتين العالمية والإقليمية يصعب مواجهتها بعيدًا عن تعزيز الوفاق الوطني، وبناءً عليه تتجنب الدولة التخبط في سياستها الداخلية والخارجية؛ لذا بات من الأهمية توافر نخبة مجتمعية تشمل كافة الطوائف المجتمعية لتصل إلى رؤى منظمة ينبري عنها بناء نهج تنموي قائم على المشاركة الفاعلة لتحقيق غايات الدولة العليا ومصالحها المستدامة.
ويشير المناخ السياسي المصري إلى توافر أجواء تنافسية إيجابية تحمل أهدافًا وطنية ومصالح قومية يطمح في إنجازها الأفراد والجماعات عبر ممارسات ديمقراطية ووفق قوانين منظمة تضمن النزاهة، ويؤكد ذلك مدى النضج والتحضر المجتمعي لدى الوسط الاجتماعي المصري ويبرهن عنه صورة الحوار الوطني الراقية التي تضمن سريان العملية السياسية المصرية بصورة صحيحة تقوم على التفاهم والتناغم ونوايا الخير للمجتمع بأسره.
وقد ارتأت القيادة السياسية بعد استتباب الأمن والأمان في بلادنا المحروسة ضرورة تنظيم حوار مجتمعي بين الأطياف والكيانات السياسية المصرية المخلصة لتراب بلادها والمهتمين بقضايا البلاد والعباد، من أبنائها أصحاب الفكر المستنير لتتقابل الرؤى البناءة وتتعمق العلاقات الإيجابية بين هذه الكيانات لتصل إلى توافق يمثل الإطار العام للعمل السياسي الذي يلتزم به أطراف التنافس دون صراعات ينتج عنها سلبيات يحصد نتاجها المجتمع، ومن ثم يتحقق التكافؤ المبني على التنوع والتعدد السياسي وفق مسارات ديمقراطية تتسم بالشفافية والاحترام، ما يُسهم في دحض رواسب الماضي التي تمخضت عن ممارسات سابقة غير سليمة، أسست على المصلحة الخاصة.
وثمت تنظيمات تساعد في إنجاح الحوار الوطني ينبغي العمل بها، والتي منها أهمية الإفادة من الخبرات السابقة في صياغة القضايا التي ترتبط بمصالح الدولة العليا ونهضتها في شتى مستويات التنمية من خلال الاهتمام المباشر بالمواطن أداة التنمية ومبتغاها، ودحض المصلحة الفئوية بكل صورها، واحترام الدستور والقوانين المنظمة، وإتاحة بيئة حوارية آمنة تضمن حرية الرأي وموضوعيته وتؤدي للتوافق.
وقد أكدت توجيهات القيادة السياسية على أن يكون الحوار الوطني متسعًا لجميع أطياف المجتمع؛ لضمان تنوع الرؤى والآراء التي نصل من خلالها للمستوى الوطني التوافقي وفق شراكة جماهيرية متوازنة وفاعلة تحمل من الخبرات ما يحقق أهداف الوطن ويترجم طموحات المجتمع بأسره، ويضمن التوصل لخريطة تتسم بالشمول في جوانبها التنموية ليس فقط لمواردها المادية والبشرية بل تتضمن الاحتياجات النوعية لكل منطقة سكنية وجغرافية، وهذا ما يضمن فكرة الاستثمار المتنامي ويحد من الهجرة الداخلية، وهو ما يشكل صورة الإصلاح الحقيقي في الدولة المصرية قاطبة.
ومن الضروري أن يهتم برنامج الحوار الوطني بالتنمية الاقتصادية؛ بغية التمكن من وضع استراتيجية توافقية لتعظيم القيمة المضافة للمشروعات القومية المصرية ومن ثم العمل على تعزيز ريادتها من خلال الميزة التنافسية التي تتفرد بها سواء في منتجها أو موقعها الجغرافي أو مواردها المتعددة أو مواهب مواردها البشرية في المجالات المختلفة، والحق أن الوصول لهذا المستوى يجنبنا الذاتية في التناول، ويقينا براثن المزايدة، ويوجِد قوى سياسية فاعلة تهتم بمصالح المواطنين دون تحقيق مكاسب سياسية بغيضة، وهذا ما يؤدي لضخ دماء تحمل فكرًا سياسيًا مبتكرًا يهتم بربوع الوطن ويعكف على تحقيق آماله وطموحاته عبر آليات إجرائية غير زائفة، ونؤكد أنه لا مجال لتديين الحوار الوطني؛ إذ إن النسيج المصري لا يسمح بذلك مطلقًا؛ حيث يقوم على القيم الأصيلة التي تحترم العقائد وتجرم النيل منها.
وقد ارتكز الحوار الوطني المصري على المنابر الإعلامية التي تناولت مخطط الدولة في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية؛ حيث حرصت إجراءاتها على دعم الصناعات المحلية والحد من الواردات والاهتمام بالمشروعات الصغيرة مع تقديم العديد من المزايا التي تشجع الاستثمار وتمكن المتعثرين من استكمال مسيرة التقدم؛ بالإضافة للدعم الأهلي من مؤسسات المجتمع المدني وبرامج الحماية الاجتماعية بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي، وتعزيز المزارع وتحفيزه سواء في التسويق أو رفع قيمة المنتج بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوفير السلع الاستهلاكية عبر الخريطة الجغرافية للوطن بكامله، وتحرك الدولة نحو خفض الدين العام والعمل الدءوب لسد عجز الميزانية، والنهوض بالبورصة بزيادة الشركات المقيد لها أوراق مالية، وعقد الشراكات مع القطاع الخاص في أصول الدولة بغية التحسين وزيادة الإنتاجية، وطرح حصص الدولة بالبورصة، ومراعاة البعد الإنساني في سداد ديون الغارمين بهدف دمجهم في استكمال مسيرة الحياة الكريمة، وكذلك العفو الرئاسي وفق التعاون مع الأجهزة المختصة، ومشاركة مختلف التيارات السياسية والشبابية في الحوار مع رفع نتائجه للقيادة السياسية التي تستجيب للمطالب إذعانًا لتحقيق غايات الوطن واستقراره على كافة المستويات.
وحري بالذكر أن الحوار الوطني يقوم على فكر متجدد يراعي تقوية النسيج الوطني ويؤكد في مضمونه على التلاحم المجتمعي إزاء ما تواجهه الدولة من أزمات، ويستهدف النظرة المستقبلية نحو مزيد من النهضة والبناء والتنمية المستدامة التي تضمن الحياة الكريمة واللائقة بأطياف المجتمع لأجياله الحالية والمستقبلية؛ لذا يتسم الحوار الوطني المتجدد بالمرونة في مكوناته وتناوله للقضايا وفق ما قد يطرأ على الساحتين الداخلية والإقليمية؛ حيث إن الإصلاحات في أبعاد التنمية تقوم على استراتيجيات تحمل في إجراءاتها الإعمار المستدام لقطاعات الدولة العامة والخاصة منها.
وفي هذا السياق يمكن القول بأن الحوار الوطني يضمن سلامة الفكر المجتمعي؛ حيث تبني الوسطية والاعتدال في تناول قضايا الوطن التي لا تنتهي، وبناء الفهم الصحيح تجاه الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، وهذا ما يحفظ لجمهوريتنا الجديدة استقرارها ومن ثم نهضتها وريادتها، ويحقق استراتيجيتها المستدامة.
وأرى أن الحوار الوطني المصري يُمثل أُنموذجًا فريدًا، يحمل رسالة فحواها: أن الدولة بفضل قيادتها السياسية والمخلصين من أبنائها، تقف على أرض صلبة بفضل ما تمتلكه من مقدرات مادية وبشرية، وأن سعيها نحو تجديد الفكر وتجديد الدماء والحيوية تؤهل الجمهورية الجديدة لمستقبل واعد يجني أثره المواطن في الفترة الوجيزة، وأجيال المستقبل التي تضمن حقها غير منقوص في الحياة لتستكمل مسيرة البناء التي لا تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولضمانة التنشئة على الفكر الوطني البناء يصعب أن نغفل دور المؤسسة التعليمية في التربية السياسية الوطنية؛ حيث العمل على تعضيد الفكر الإيجابي نحو المواطنة بصورة مقصودة من خلال تعزيز الحوار الوطني داخل تلك المؤسسات؛ لإعداد أجيال تحمل المسئولية التي تنبري عن قيم وطنية تُسهم في نهضة الوطن على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وتساعد في بناء المستقبل لتحقيق جودة الحياة المرتقبة.
نسأل الله جل في علاه أن يحفظ بلادنا ويوفق قيادتنا السياسية والمخلصين من أبنائها إلى ما فيه الخير والصواب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة